.
تحدثنا فى المقالة السابقة عن حفر «قناة السويس»، واقتناع «سعيد باشا» برأى صديقه «فرديناند ديليسبس» بأهمية حفر القناة وفوائده على مِصر، ما جعله يُصدر فرمان عقد الامتياز الأول فى نوفمبر من عام ١٨٥٤م، تبِعه فرمان الامتياز الثانى فى يناير من عام ١٨٥٦م، ثم البَدء فى حفر القناة فى إبريل من عام ١٨٥٩م. وقد قام بهذا العمل بأيدى المِصريّين الذين دفعوا ثمنًا فادحًا من دمائهم وحياتهم.
حفر القناة بالسُّخرة
تحكى لنا سُطور صفحات التاريخ عن قِصص المِصريِّين الذين دفعوا ثمنًا فادحًا من دمائهم وحياتهم فى حفر قناة السويس، مئات الآلاف يساقون بالعنف والقوة من بلادهم تاركين وراءهم حقولًا وديارًا وأُسرًا تبكى فقدان عائلها، ليتساقطوا قتلى بأعداد لا تُحصى، حتى إن «أوليفين»، كبير المهندسين الفرنسيِّين، الذى شارك فى حفر القناة، قال: «كان العمال المِصريُّون يخوضون فى الماء والطين السائل الذى ينساب ويغمر أجسامهم، فى حين رؤوسهم فى جحيم الشمس، وأبدانهم فى عذاب السُّخرة وآلام الجوع والبؤس والأوبئة.. العمال المِصريُّون الذين يعملون وهم غائصون بكل أجسامهم فى الماء، ولا يحمى رؤوسهم سوى السماء. لقد بلغوا أكثر من مليون ونصف المليون عامل مِصرىّ. وكلهم مدهِشون حقًّا، كلهم ذَوُو صبر وجَلَد عظيمين! لقد عرفتُهم عن قرب. وأحسستُ أنهم أبناء شعب عريق».
بدأ الحفر فى ١٨٥٩م فى وجود «ديليسبس»، إلا أنه توقف حتى اقتراب نهاية العام بسبب معارضة بريطانيا وتركيا. وبعودته كانت أغلبية عدد العمال هى من المِصريِّين، فى حين وجود العمال الأجانب كان أقل بكثير، وبدأ يقل تدريجيًّا بسبب ارتفاع أجورهم، واختلاف المُناخ الذى يعملون فيه عن ذلك الذى اعتادوه فى بلادهم، كما اختلفت عاداتهم عن العمال المِصريِّين. ومع ازدياد أعداد العاملين فى الحفر، إلا أنها كانت غير كافية، ما دعا الشركة إلى عقد لجنة لجمع العمال، الذين وصلوا إلى معدل عشرين ألف عامل كل عشرة أشهر، وكانوا من بين طبقة الفلاحين. وكانوا قد تعرضوا لمشكلة مياه الشرب، فاستوردت الشركة ثلاثة مكثفات لتحلية مياه البحر.
وفى عام ١٨٦١م، أنشأت الشركة ميناء مدينة «بورسعيد»، وحوضًا للميناء، ومصنعًا للطوب، إلا أن مشكلة نقص مياه الشرب كانت لاتزال قائمة. فاتفقت الشركة والسيد «محمد الجيار»، أحد أصحاب مراكب الصيد، على نقل مياه الشرب من المطرية إلى «بورسعيد». وفى إبريل ١٨٦١م حفرت ترعة للمياه العذبة من «القصاصين» إلى إحدى القرى القريبة من «بحيرة التمساح»، لتصلها المياه فى يناير ١٨٦٣م. وفى محاولة لحل مشكلة مياه الشرب، بدأت الشركة فى إبريل ١٨٦٤م فى مد خط أنابيب للمياه العذبة من «بحيرة التمساح» إلى «بورسعيد».
وقد عانى العمال المِصريُّون فى أثناء الحفر انتشار عدد من الأوبئة تسببت فى موت عدد كبير منهم، ومن أشهرها وباء «الكوليرا» فى ١٨٦٥م، و«الجُدَرى» فى ١٨٦٦م، ويعود هذا الأمر إلى كثرة عدد العمال، مع عدم وجود رعاية صحية كافية لهم.
وفى نوفمبر عام ١٨٦٢م، وصلت مياه البحر الأبيض المتوسط إلى «بحيرة التمساح». وفى ١٨٦٩م، وُصل البحر الأبيض بالبحيرات المُرة، ثم وصلت مياه البحر الأحمر إليها. وانتهت أعمال حفر القناة فى أُغسطس ١٨٦٩م، وأطلق عليها اسم «قناة السويس». ويُذكر أنه استُخرج ٧٤ مليون متر مكعب من الرمال، بتكاليف وصلت إلى ٣٦٩ مليون فرنك فرنسىّ، باستخدام مليون ونصف المليون عامل تقريبًا، بلغ عدد من لقِىَ حتفه منهم فى أثناء الحفر ١٢٥ ألف عامل تقريبًا.
حفل افتتاح قناة السويس
افتُتحت «قناة السويس» فى عهد «الخديو إسماعيل» فى ١٦ نوفمبر ١٨٦٩م، فى حفل أسطورىّ شهِده أباطرة العالم وملوكه. بدأت الاستعدادات برصف طريق القاهرة- السويس. وقد اهتموا بنظافة المدينة، وتوريد الأطعمة إلى بورسعيد، وإحضار الثلج من القاهرة، واستدعاء خَمسمائة طباخ من مارسيليا وچنوا وتريستا. كذٰلك جُهزت السفن لنقل المدعوين من «الإسكندرية» إلى «بورسعيد». وبدأ إعداد الزينات مع أوائل شهر نوفمبر.
وفى يوم الافتتاح، انتشر المِصريُّون من فلاحين، ونوبيِّين، وعُربان بأسرهم، على خط القناة مرتدين ملابسهم التقليدية. كذلك اصطف الجيش والأسطول المِصرىّ فى ميناء «بورسعيد» وعلى ضفاف القناة، ما أضفى مهابة وروعة على الاحتفال. وأقيمت ثلاث منصات مكسوة بالحرير: لكبار الملوك والأمراء، ولرجال الدين الإسلامىّ، ولرجال الدين المَسيحىّ. وحضر الاحتفال: «أوجينى»، إمبراطورة فرنسا، و«فرنسوا چوزيف»، إمبراطور النمسا، وملك المجر، وولىّ عهد بروسيا، والأمير «هِنْرى»، شقيق ملك هولندا، وسفيرا بريطانيا وروسيا بالأسِتانة، والأمير «مُحمد توفيق»، ولىّ العهد، والأمير «طوسون»، نجل «مُحمد سعيد باشا»، و«شريف باشا»، و«نوبار باشا»، والأمير «عبدالقادر» الجزائرىّ. وقد كان احتفالًا غير مسبوق حتى إنه قيل إن الإمبراطورة «أوجينى» أرسلت إلى زوجها الإمبراطور «نابُليون الثالث» تصف له ما شهِدته، معبّرة عن ذلك بأن الاحتفال كان فخمًا، وأنها لم ترَ مثله فى حياتها!
بريطانيا والقناة
وما إن افتُتحت قناة السويس، حتى بدأ سعى بريطانيا للاستيلاء عليها، حتى تتمكن من استمرار سيطرتها على البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى خوفها على تأثر تجارتها فى المستعمرات الهندية إن ظلت القناة تحت السيطرة الفرنسية. وقد استغلت بريطانيا أزمة مِصر المالية فى أواخر عهد الخديو «إسماعيل»، ففى نوفمبر ١٨٧٥م باع الخديو نصيبه ونصيب مِصر من أسهم قناة السويس التى تمثل ٤٤% إلى بريطانيا بثمن قدره ١٠٠ مليون فرنك، أىْ ما يعادل ٣٩ مليون جُنيه، وبذٰلك حُرمت مِصر من ملكيتها للقناة. وهكذا استطاعت بريطانيا الاشتراك فى إدارة «شركة قناة السويس»ـ التى كانت تنفرد بها فرنسا حتى ذٰلك الوقت- وصارت صاحبة ٤٤% من الأسهم، مع وجود ثلاثة أعضاء لها فى مجلس الإدارة، ما أتاح لها الفرصة للتدخل فى شؤون مِصر السياسية والمالية. حتى انتهى الأمر بالاحتلال البريطانىّ فى مصر عام ١٨٨٢م، أىْ فى أقل من سبْع سنوات!
اتفاقية الأسِتانة
أثار الاحتلال البريطانىّ فى مصر مشكلة بين كل من بريطانيا وفرنسا فى مسألة تنظيم استخدام القناة. ووصلت الدولتان إلى اتفاق على تحكيم لجنة دُولية فى باريس تضم ممثلين عن دول أوروبية، بالإضافة إلى تركيا ومِصر. وجرى توقيع اتفاقية القسطنطينية التى تنظم أمور إدارة القناة فى أكتوبر ١٨٨٨م. وتُعد تلك الاتفاقية معاهدة دُولية بين دول: بريطانيا، والنمسا، والمجر، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، وروسيا، وتركيا. وقد أقرت الاتفاقية حياد القناة.
فقد تضمنت المعاهدة: مرور جميع السفن التِّجارية والحربية فى أوقات الحرب والسلم دون تمييز للجنسيات، وأن القناة لن تكون خاضعة أبدًا لاستعمال حق الحصار الحربىّ، ونصت على تعهد الدول العظمى بعدم المساس بسلامة القناة ومشتقاتها أو محاولة سدها، وأيضًا عدم مساس المهمات والمنشآت والمبانى والأعمال الخاصة بالقناة البحرية وقناة المياه العذبة.
كذلك أشارت الاتفاقية إلى عدم استخدام أىّ حق من حقوق الحرب لتعطيل الملاحة فى القناة، أو فى الموانئ الموصلة إليها، أو فى دائرة نصف قطرها ثلاثة أميال بحْرية من هذه الموانئ، حتى إن كانت الدولة العثمانية هى أحد الخصوم فى أىّ معارك حربية. أيضًا لا يجوز إبقاء سفن حربية فى مياه القناة وترعة التمساح والبحيرات المُرة، فى حين يجوز أن تقف فى الموانئ المؤدية إلى بورسعيد والسويس بشرط عدم تجاوز عدد سفن الدولة الواحدة سفينتين، فى حين تُحرم الدول المتحاربة من هذا الحق. إلا أن المادة العاشرة من الاتفاقية سمحت بعمل التدابير التى تؤول إلى الدفاع عن الدولة المِصرية وصيانة الأمن العام. وقد استخدمت بريطانيا هذه المادة لتبرير موقفها فى أثناء الحرب العالمية الثانية، كما استخدمتها أيضًا مِصر ضد السفن الإسرائيلية بعد حرب ١٩٤٨م.
وقد قبِلت بريطانيا تلك المعاهدة على مضض، مع إبداء بعض التحفظات، فقد ذُكر أن: «وفد بريطانيا العظمى، بعرضه هذا النص بصفته القاعدة المحددة لتأمين الاستخدام الحر لقناة السويس، يعتقد أنه من واجبهم إعلان تحفظ عام على قابلية تطبيق مواد المعاهدة فى حالة تعارضها مع الوضع الانتقالىّ والاستثنائىّ الذى تعيشه مِصر». وقد قبِلت فرنسا هذا التحفظ الذى جعل المعاهدة «إعلانًا أكاديميًّا»، حتى أزيل عام ١٩٠٤م فى الاتفاق الودىّ بين كل من فرنسا وبريطانيا و.. وعن مِصر الحُلوة الحديث لا ينتهى..!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ