تحدثنا فى المقالة السابقة عن «قناة السويس»، وحفرها بالسُّخرة فى ظروف قاسية تسببت فى موت آلاف المِصريِّين، ثم افتتاحها فى الـ16 من نوڤمبر 1869م، فى حفل أسطوريّ شهِده أباطرة العالم وملوكه. وما إن افتتُحت قناة السويس، حتى بدأت بريطانيا تتحين الفرصة لفرض سيطرتها عليها؛ ففى ظل الأزمة المالية التى شهِدتها مِصر تمكنت من شراء أسهم مِصر فى القناة، وبدأ التدخل فى الشؤون المِصرية، انتهاءً بالاحتلال البريطانيّ فى عام 1882م. ثم تعرضنا لاتفاقية الأسِتانة التى عُقدت فى عام 1888م.
■ الاحتلال البريطانى
فى 1878م أصدر الخديو «إسماعيل باشا» أمره بإنشاء مجلس النُظّار ـ مجلس الوزراء ـ وإعطائه مسؤولية الحكم، وأطلق عليه «الوَزارة الأوروبية»، تشتمل على وزيرين أوروبيَّين. ولم تعمل تلك الوَزارة على إصلاح البلاد، بل على النقيض، كبَّلت مِصر بمزيد من الدُّيون. ثم رغبت بريطانيا فى عزل الخديو «إسماعيل»، وتمكنت من هٰذا بمعاونة فرنسا، وعيَّنت ابنه «محمد توفيق».
سعت بريطانيا لفرض مزيد من السَّطوة على مِصر؛ فقامت بإبعاد فرنسا عن قناة السويس، ثم إبعاد الحكومة العثمانية عن الأزمة المصرية، تلاه تصويب سهامها تجاه إضعاف الجيش المِصريّ. وما إن أحكمت قبضتها على مِصر وقناة السويس حتى قامت بتسريح الجيش المِصريّ، وإلغاء الأسطول البحْريّ، وإلغاء الأسطول التِّجاريّ، وإلغاء الترسانة البحْرية، وإغلاق المدارس الحربية فلم يتبقَّ إلا مدرسة واحدة بالقبة، وإلغاء مجانية التعليم، مع منع إنشاء مدارس جديدة، وإحلال المعلمين البريطانيِّين محل المِصريِّين.
ثم قدَّم وزير خارجية بريطانيا مشروعًا إلى الحكومة المِصرية لمد مدة امتياز القناة أربعين عاما أخرى، مقابل مبلغ مالى تدفعه الشركة صاحبة الامتياز إلى الحكومة المصرية، إلى جانب نسبة معينة من الأرباح. إلا أن الزعيم «مُحمد فريد» استطاع الحصول على نسخة من مشروع القانون ونشرها فى جريدة «اللواء» فى أكتوبر 1909م؛ فكانت انطلاقة لبدء حملة من الحركة الوطنية لتعبئة المصريين ضد الموافقة عليه، إذ إعطاء هذا الامتياز يعنى عودة القناة لمصر فى عام 2008م. وكان يرأس الحركة الوطنية آنذاك الحزب الوطنى حين أعلن الزعيم «مصطفى كامل» فى خطبته الأخيرة تأسيسه الحزب فى أكتوبر 1907م. وطالب بعرض مشروع هذا القانون على الجمعية العمومية لأخذ رأيها فيه. وقد انعقدت الجمعية العمومية المصرية فى الـ9 من فبراير 1910م لمناقشة المشروع الذى انهار بعد اغتيال «بطرس غالى باشا» رئيس وزراء مِصر على يد «إبراهيم ناصف الورداني» الذى اعتبره خائنًا للبلاد، إلا أن العبارات الأخيرة التى نطق بها «بطرس غالى» قبل وفاته فى أثناء علاجه من جروح الأعيرة النارية قال فيها: «يعلم الله أننى ما أتيت ضررا ببلادى، ولقد رضيت باتفاقية السودان رغم أنفى، وما كان باستطاعتى أن أعترض عليها. إنهم يسندون إليٌ (حادثة دنشواى)، ولم أكن منها ولا هى منى. ويعلم الله أننى ما أسات إلى بلادى». وقد أشارت الوثائق الإنجليزية التى جرى الإفراج عنها إلى أنه فاوض الإنجليز على تخفيف أحكام دنشواى. وفى عام 1919م، قامت الثورة المصرية بزعامة «سعد زغلول» للمطالبة بالحرية والاستقلال ما جعل الحكومة البريطانية تصدر تصريحا فى الـ28 من فبراير 1922م، ونصه:…
1. إلغاء الحماية البريطانية على مصر، والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
2. إلغاء الأحكام العرفية.
3. تهيئة البلاد لحياة دستورية برلمانية عن طريق وضع دستور للبلاد وانتخاب أعضاء برلمان مزدوج (أى بمجلسين).
مع تحفظات أربعة:
■ تأمين المواصلات البريطانية فى مصر.
■ الدفاع عن مصر أمام أى هجوم عليها.
■ حماية المصالح الأجنبية وحماية الأقليات.
■ السودان تستمر أوضاعه على ما كانت عليه.
وقد اعتبر كثيرون أن هذا الاستقلال هو استقلال شكلى فقط لا يحقق الحرية الحقيقية. ولكن «فؤاد» أقام الاحتفالات لحصول مصر على الاستقلال، واتخذ لنفسه لقب «الملك»، ثم توافدت وفود الدول الأجنبية لتقديم التهنئات بإعلان استقلال مصر. أما الشعب المصرى فلم يشارك بسبب نفى الزعيم «سعد زغلول» إلى «جزيرة سيشيل» هو ورفاقه. وقد أفرج عنهم ليعودوا إلى مصر فى سبتمبر 1923م بعد صدور أول دستور مصرى.
ومع ازدياد المطالبة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية بجلاء القوات البريطانية، وُقِّعت «معاهدة 1936م».
■ «معاهدة 1936م»
كانت المعاهدة بين بريطانيا ومِصر، بعد ارتقاء «الملك فاروق» العرش، وتعيين مجلس وصاية عليه لصغر سنه. ومع الصراع الدائر بين بريطانيا وبين حزب الوفد والجبهات الوطنية الأخرى، اضطرت بريطانيا للدخول فى مفاوضات بقيادة السير «مايلز لامبسون» المندوب السامى البريطانيّ ومعاونيه وهيئة المفاوضات المِصرية، واشترطت أن تكون المفاوضات بين كل الأحزاب حتى تضمن موافقتها جميعًا. وقد شاركت كل الأحزاب عدا الحزب الوطنيّ الذى رفض المفاوضات قبل جلاء القوات البريطانية. وهٰكذا بدأت المفاوضات فى القاهرة فى «قصر الزعفرانة» فى مارس، وانتهت فى لندن بوضع معاهدة فى الـ26 من أُغسطس 1936م.
بنود المعاهدة:
1. انتقال القوات العسكرية من المدن المِصرية إلى منطقة قناة السويس، وبقاء الجنود البريطانيِّين فى السودان بلا قيد أو شرط.
2. تحديد عدد القوات البريطانية فى مِصر بحيث لا يزيد عن 10 آلاف جنديّ و400 طيار، مع الموظفين اللازمين لأعمالهم الإدارية والفنية؛ وذٰلك وقت السلم فقط. أمّا حالة الحرب، فلإنجلترا الحق فى الزيادة؛ وبهٰذا يصبح هٰذا التحديد غير معترف به.
3. لا تنتقل القوات البريطانية للمناطق الجديدة إلا بعد أن تقوم مِصر ببناء الثُّكنات وَفقا لأحدث النُّظم.
4. تبقى القوات البريطانية فى الإسكندرية ثمانى سنوات من تاريخ بَدء المعاهدة.
5. تظل القوات البريطانية الجوية فى معسكرها فى منطقة القنال، ومن حقها التحليق فى السماء المِصرية، ونفس الحق للطائرات المصرية.
6. فى حالة الحرب، تلتزم الحكومة المِصرية بتقديم كل التسهيلات والمساعدات للقوات البريطانية، وللبريطانيِّين حق استخدام موانئ مِصر، ومطاراتها، وطرق المواصلات بها.
7. بعد مرور 20 عامًا من التنفيذ للمعاهدة، يبحث الطرفان فيما إذا كان وجود القوات البريطانية ضروريًّا؛ لأن الجيش المِصريّ أصبح قادرًا على حرية الملاحة فى قناة السويس وسلامتها، فإذا قام خلاف بينهما، يجوز عرضه على «عُصْبة الأمم».
8. حق مِصر فى المطالبة بإلغاء الامتيازات الأجنبية وحريتها فى عقد المعاهدات السياسية مع الدول الأجنبية بشرط ألا تتعارض مع المعاهدة.
9. إلغاء جميع الاتفاقيات والوثائق المنافية لأحكام هٰذه المعاهدة؛ ومنها «تصريح 28 فبراير» بتحفظاته الأربعة.
10. إرجاع الجيش المِصريّ للسودان، والاعتراف بالإدارة المشتركة مع بريطانيا.
11. حرية عقد المعاهدات السياسية مع الدول الأجنبية؛ بشرط ألا تتعارض مع أحكام هٰذه المعاهدة.
12. تبادل السفراء مع بريطانيا العظمى.
بهٰذا صار لبريطانيا حق إنشاء قواعد حربية فى منطقة القناة لحمايتها ولسلامة مرور السفن فيها؛ أيْ إن حق الدفاع عن القناة أصبح لبريطانيا. وهٰكذا أصبحت مِصر غريبة عن القناة. ومع إلزام مِصر بتقديم المساعدات فى حالة الحرب، ازدادت الأعباء المالية التى أعاقت سرعة إعداد الجيش المِصريّ للدفاع عنها، وأدى هٰذا الوضع إلى مطالبة وَزارة «النحاس باشا» فى 1950م بالدخول فى مفاوضات جديدة مع الحكومة البريطانية، استمرت تسعة أشهر بسبب تشدد بريطانيا، ما جعل «النحاس باشا» يُعلن قطع المفاوضات وإلغاء «معاهدة 1936م» واتفاقيتى السودان. وبتصديق البرلمان عليها أُلغى التحالف بين بريطانيا ومِصر، واعتُبر وجود القوات البريطانية فى منطقة القناة هو احتلال عسكريّ، فبدأ النضال الذى أسفر عنه قيام «ثورة يوليو 1952م».
■ «ثورة» 23 يوليو 1952م
قامت «ثورة 23 يوليو» 1952م، لتعود مِصر إلى المِصريِّين. أعقبها «اتفاقية الجلاء» فى 1954م، لتحتفل مِصر بجلاء آخر جنديّ بريطانيّ عن القناة فى 1956م. وعقب الثورة، عرض رجل يونانيّ يُدعى «أدريان داتينوس» على الرئيس «جمال عبدالناصر» مشروع إقامة السد العالي؛ لزيادة الرُّقعة الزراعية المِصرية، ووِقاية البلاد من الفيضانات، وتوليد الكهرباء اللازمة لإقامة مشروعات التصنيع فى البلاد. وبدراسة المشروع اتجهت مِصر إلى واشنطن ولندن والبنك الدُّولى لمعاونتها فى تمويل المشروع. ولٰكنّ الولايات المتحدة وبريطانيا قدمتا عروضًا وشروطًا تتيح لهما الدخول فى شؤون مصر المالية، وتوجيه اقتصادها وسياستها مدة بناء السد التى قُدر لها عشر سنوات، وقد رفض «عبدالناصر» هٰذه الشروط. ونتيجة موقف مصر الحازم، وبعد العرض السوڤيتيّ، قبل الغرب بتمويل مشروع السد فى ديسمبر 1955م، وفى الوقت نفسه، كانت هناك صفقة تُدار بأن يكون تمويل المشروع مقابل السلام مع إسرائيل. إلا أن الأمر لم يتحقق مع انهيار الصفقة ما أدى إلى تراجع الولايات المتحدة وبريطانيا عن عرضهما. فقد استدعى «جون فوستر دالاس» وزير خارجية الولايات المتحدة، السفير المصرى فى واشنطن، وأبلغه أن حكومة واشنطن تراجعت عن عرضها بتقديم المعونة المالية للمشاركة فى تمويل قروض مشروع بناء السد. وفى الوقت نفسه، كان نص خطاب الرفض قد جرى توزيعه على الصحف قبل وصوله رسميا إلى الحكومة المصرية. وفى إنجلترا، استدعى فى اليوم التالى «سير هارولد كاشيا»، الوكيل الدائم لوزارة الخارجية البريطانية، السفير المصرى فى بريطانيا، وأبلغه أن بريطانيا قررت بدورها التراجع عن العرض المقدم إلى مصر لتكملة تمويل قروض مشروع بناء السد العالى.
وعن مِصر الحُلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطيّ الأرثوذكسى