تحدثنا فى المقالة السابقة عن الاحتلال البريطانىّ لمِصر وسعى بريطانيا للسيطرة على «قناة السويس»، و«تصريح 28 فبراير» 1922م، وتوقيع «معاهدة 1936م»، وقيام ثورة 1952م، وجلاء آخر جندى بريطانىّ فى 1956م.
ومع توقيع اتفاقية الجلاء بين مِصر وبريطانيا فى الـ19 من أكتوبر 1954م، بدأ الشعور بالخطر يدِب فى إسرائيل التى بدأت فى إثارة موضوع السماح للسفن الإسرائيلية بعبور المجرى الملاحى المِصرى، آملةً تضمين هٰذا السماح فى نصوص اتفاقية الجلاء، وبخاصة أن الهدنة المِصرية الإسرائيلية فى 1949م لم تحُل النزاع القائم بين الدولتين على عبور السفن الإسرائيلية فى القناة. وكان قرار للأمم المتحدة قد صدر فى عام 1951م بشأن رفع القيود المِصرية عن عبور السفن الإسرائيلية فى القناة، إلا أن الحظر المِصرى استمر حتى قامت إسرائيل بمحاولة أن تدفع إحدى السفن التابعة لكوستاريكا بعد شرائها وتغيير اسمها إلى «بات جاليم» والعلم الإسرائيلى يرفرف عليها، لعبور القناة، وذٰلك فى الـ28 من سبتمبر 1954م. فما كان من السلطات المِصرية إلا أن احتجزتها، وألقت القبض على طاقَمها بسبب قتل صيادَين. ورفعت كلتا الدولتين الأمر إلى مجلس الأمن، الذى قام بالتحقيق فى الحادثة، وكانت إسرائيل تستند إلى أن منع سفنها من المرور فى القناة يُعد انتهاكًا للقانون الدُّولى و«اتفاقية الآسِتانة 1888م». وكان الجانب المِصريّ يدفع هٰذه الحُجج بأن الدخول المِصرى فى شؤون الملاحة ضرورى لأمن مِصر وسلامتها. وقد باءت كل المحاولات الإسرائيلية بالفشل، إذ لم تشتمل نصوص الاتفاقية على ما سعت له إسرائيل.
وقد حاولت الدول الغربية التدخل فى تنظيم عمل قناة السويس، إلا أن العَلاقات بين مِصر والغرب لم تكُن على هٰذا المستوى من الاستقرار، إذ اعترضت مِصر على انحياز الغرب إلى إسرائيل، ما دفع إلى منع مرور بعض السفن فى القناة. وقدمت السفارة الأمريكية احتجاجًا فى يوليو 1956م على شرط استيفاء بعض البيانات الخاصة بالسفن الأمريكية حتى يؤْذن لها بالعبور. وصرح رئيس وزراء إسرائيل آنذاك قائلًا: «إن نقل منطقة القناة، بما فيها المطارات، إلى السلطة العسكرية المِصرية يَزيد من قوتها وقدرتها على العُدوان ضد إسرائيل».
ومع الصراعات الدُّولية التى تعرضت لها مِصر فى إتمام مشروع بناء السد العالى، الذى أصبح مشروعًا وطنيًّا للمِصريين آنذاك، لم تجِد القيادة سبيلًا إلا إعادة القناة لأصحابها الحقيقيِّين أبناء الشعب المِصرى.
تأميم قناة السويس
أمام كل التحديات التى لقِيَتها القيادة المِصرية والشعب فى بناء البلاد، وقف الرئيس «جمال عبدالناصر» فى «ميدان المنشية» بالإسكندرية فى الـ26 من يوليو 1956م، ليُعلِن للعالم بأسره أن مِصر تستعيد حقوقها، فأعلن «قرار تأميم شركة قناة السويس» لتكون شركة مساهمة مِصرية.
وذكر الرئيس فى خطابه: «إن الشركة اغتصبت حقوق المِصريِّين». وأكد أن التاريخ لن يُعيد نفسه، وأن رئيس البنك الدُّولى آنذاك «يوجين بلاك» لن يكرر دَور «ديليسيبس»، وأن مِصر لن يمنعها أحد عن بناء السد العالى، لذٰلك ستقوم بتحصيل دخل قناة السويس السنوى الذى يقدر بمائة مليون دولار. وأضاف: «الفقر ليس عارًا، لٰكنّ استغلال الشعوب عار. سنستعيد حقوقنا كافة، لأن كل هٰذه الأموال ملك لنا، وهٰذه القناة ملك لمِصر… لقد حفر القناة 120 ألف مِصرى، مات كثير منهم فى أثناء الأشغال…».
ونص القرار: باسم الأمة، رئيس الجمهورية،
مادة 1:
تؤمَّم الشركة العالمية لقناة السويس البحْرية شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات، وتُحل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليًّا على إدارتها، ويعوَّض المساهمون وحمَلة حصص التأسيس عما يملكونه من أسهم وحصص بقيمتها، مقدَّرة بحسب سعر الإقفال السابق على تاريخ العمل بهٰذا القانون فى بورصة الأوراق المالية بباريس، ويتم دفع هٰذا التعويض بعد إتمام استلام الدولة لجميع أموال الشركة المؤمَّمة وممتلكاتها.
مادة 2:
مرفق المرور بقناة السويس مرفق عام ملك للدولة، ويتولى إدارته هيئة مستقلة تكون لها الشخصية الاعتبارية، وتلحق بوَزارة التجارة، ويصدر بتكوين هٰذه الهيئة قرار من رئيس الجمهورية، ويَكون لها فى سبيل إدارة المرفق جميع السلطات اللازمة لهٰذا الغرض، دون التقيد بالنُّظم والأوضاع الحكومية.
ومع عدم الإخلال برقابة ديوان المحاسبة على الحساب الختامى، يكون للهيئة ميزانية مستقلة، يُتَّبع فى وضعها القواعد المعمول بها فى المشروعات التِّجارية، وتبدأ السنة المالية فى الأول من يوليو، وتنتهى فى آخر يونيو من كل عام، وتعتمد الميزانية والحساب الختامى بقرار من رئيس الجمهورية، وتبدأ السنة المالية الأولى من تاريخ العمل بهٰذا القانون، وتنتهى فى آخر يونيو سنة 1957م. ويجوز للهيئة أن تنتدب من بين أعضائها واحدًا أو أكثر لتنفيذ قراراتها أو للقيام بما تعهد إليه من أعمال، كما يجوز لها أن تؤلف من بين أعضائها أو من غيرهم لجانًا فنية للاستعانة بها فى البحوث والدراسات. يمثل الهيئة رئيسها أمام الهيئات القضائية والحكومية وغيرها، وينوب عنها فى معاملتها مع الغير.
مادة 3:
تجمَّد أموال الشركة المؤمَّمة وحقوقها فى جمهورية مِصر وفى الخارج، ويحظُر على البنوك والهيئات والأفراد التصرف فى تلك الأموال بأى وجه من الوُجوه، أو صرف أى مبالغ، أو أداء أى متطلبات أو مستحقات عليها إلا بقرار من الهيئة المنصوص عليها فى المادة الثانية.
مادة 4:
تحتفظ الهيئة بجميع موظفى الشركة المؤمَّمة ومستخدميها وعمالها الحاليِّين، وعليهم الاستمرار فى أداء أعمالهم، ولا يجوز لأى منهم ترك عمله أو التخلى عنه بأى وجه من الوُجوه، أو لأى سبب من الأسباب، إلا بإذن من الهيئة المنصوص عليها فى المادة الثانية.
مادة 5:
كل مخالفة لأحكام المادة الثالثة يعاقَب مرتكبها بالسَّجن وغرامة توازى ثلاثة أمثال قيمة المال موضوع المخالفة، وكل مخالفة لأحكام المادة الرابعة يعاقَب مرتكبها بالسَّجن، مع حرمانه من أى حق فى المكافأة أو المعاش أو التعويض.
مادة 6:
يُنشر هٰذا القرار فى الجريدة الرسمية، ويكون له قوة القانون، ويُعمل به من تاريخ نشره، ولوزير التجارة إصدار القرارات اللازمة لتنفيذه.
يبصم هٰذا القرار بخاتَم الدولة وينفَّذ كقانون من قوانينها.
تحريرًا فى الثامن عشَر من ذى الحجة سنة 1375هـ – السادس والعشرين من يوليو 1956م.
جمال عبد الناصر
وكان الرئيس «جمال عبد الناصر» قد أعد أمر التأميم قبل إلقاء الخطاب بأسلوب سرى ومفاجئ، إذ كلف م. محمود يونس، رئيس الهيئة العامة للبترول، بإعداد كل شىء لتأميم شركة قناة السويس، وكلف معه م. عبدالحميد أبوبكر، سكرتير عام الهيئة العامة للبترول آنذاك، فتكون ساعة الصفر حينما تُذكر كلمة السر «ديليسيبس» فى أثناء إلقاء الرئيس خطابه.
وكان المخطَّط لهما عند سماع تلك الكلمة أن يبدآ التحرك للاستيلاء على شركة قناة السويس، وقد كرر الرئيس كلمة السر فى خطابه 16 مرة! وعند سماع كلمة السر، توجه أعضاء مجموعة التأميم، وكانوا ثمانية من القوات المسلحة، وأحد عشَر من البترول، وواحدًا من الشرطة، وفنيِّين، وأربعةً من وُزراء التجارة. وذكر محمود يونس أن حقيقة المهمة التى أدَّوها فى تلك الليلة كانت غير معلَنة سوى لثلاثة أفراد، فى حين قيل لباقى أفراد المجموعة إن لديهم عملية سرية، ولا يمكنهم السؤال عن أيّ تفاصيل تتعلق بها. ومع انتهاء خطاب الرئيس، كانت الشركة تحت السيطرة المِصرية. وقد ذكر الرئيس «عبدالناصر» أن العملية تمت بسُهولة فقال: «لم أعرِف شيئًا مر بهدوء، كما مرت هٰذه العملية، فما إن فرَغتُ من إلقاء خطابى حتى كانت العملية كلها قد نُفّذت.
وتلقى المِصريُّون هٰذا الخطاب بحماس وفرحة فى أنحاء البلاد، فى حين طبع الخطاب علامات استفهام وذهول فى الغرب! إذ إنه كان يمثل تحديًا للقوى العظمى، وإطاحةً بالمصالح الاقتصادية الغربية الضخمة التى أصبحت مثار قلقها. وعُقد مؤتمر فى أُغسطس فى لندن، حضره ممثلو اثنتين وعشرين دولة، حيث قدمت الولايات المتحدة مشروعًا أُطلق عليه مشروع الـ18 الذى احتوى اقتراحات تتعلق بقناة السويس تتضمن تدويل الممر الملاحى المِصرى، وإبعاد الحكومة المِصرية عن تقرير أى أمر يتعلق بالملاحة فى القناة أو السيادة عليها!!
إلا أن الرد على قرار تأميم القناة لم يكُن فى مؤتمر لندن بـ«مشروع الـ18» الأمريكى فقط، ولٰكنّ الدول الكبرى غضِبت غضبًا عارمًا، إذ قامت الحكومة البريطانية بتجميد الأرصدة المالية لمِصر فى بنوكها، ومنعت شحن البضائع إلى مِصر، كما منعت تسليم ذهب وودائع شركة قناة السويس لمِصر إلا بترخيص وَزارة المالية البريطانية، وجمدت الولايات المتحدة أيضًا أرصدة مِصر لديها فى أعقاب تأميم القناة. ثم بدأ التخطيط فى تحالف من ثلاث دول هى: بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل، أدى إلى العُدوان على مِصر، ما عُرف باسم «أزمة السويس» أو «العُدوان الثلاثى» فى 1956م. و… وعن مِصر الحُلوة الحديث لا ينتهى…!