تحدثنا فى المقالة السابقة عن توقيع اتفاقية الجلاء بين مِصر وبريطانيا فى 1954م، ومحاولات إسرائيل أن تتضمن الاتفاقية السماح لسفنها بعبور القناة، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل. وأمام كل التحديات التى لقِيَتها القيادة المِصرية والشعب فى إتمام مشروع السد العالى، أعلن الرئيس «جمال عبدالناصر» «قرار تأميم شركة قناة السويس» لتكون شركة مساهمة مِصرية، ليتلقى المِصريُّون قرار التأميم بأفراح عمت أرجاء البلاد، فى حين تلقاه الغرب بذهول.
مؤتمر لندن أغسطس 1956م
ومع قرار التأميم، عم الغضب كلًّا من بريطانيا وفرنسا وأمريكا؛ فقد اجتمع «أنتونى إيدن»، رئيس الوزراء البريطانى آنذاك، بحكومته، وعبَّر عن غضبه من قرار التأميم، وأنه لا يمكن ترك القناة فى سيطرة «عبدالناصر»، حتى إن وصل الأمر إلى استخدام القوة!! أمّا «أيزِنهاور»، الرئيس الأمريكى فى ذٰلك الوقت، فقد أرسل إلى كل من وزيرى الخارجية البريطانية «أنطونى أيدن» ونظيره الفرنسى «چى مولييه» برسالة، ذكر فيها أن اللجوء إلى القوة العسكرية يجب ألا يحدث إلا بعد استنفاد جميع الوسائل السلمية، وأن الموقف يستدعى التصرف باعتدال، واقترح عقد مؤتمر دُولى فى هذا الشأن. وقد صدر بيان ثلاثى من تلك الدول تسلمته الخارجية المِصرية فى الثالث من أغسطس 1956م يُعلِن: رفض الدول قرار التأميم، وطلب إشراف دُولى على القناة استنادًا إلى اتفاقية القسطنطينية 1888م، وطلب بريطانيا عقد مؤتمر دُولى فى لندن فى السادس عشَر من أغسطس.
وفى الثامن من أغسطس، هاجم «إيدن» الرئيسَ المِصرى من خلال كلمة وجَّهها إلى شعبه عبر التليفزيون عندما قال: «إن معركتنا ليست ضد مِصر، وليست ضد العالم العربى، بل هى ضد الكولونيل ناصر». وكان رد الرئيس المِصرى معلِّقًا على تلك الكلمة: ««إننا لا نثق بناصر… ومعركتنا ضد ناصر. حسنًا، إن كان هٰذا الشعب لا يحظى بأى ثقة، فليس من سبب يدعونا إلى الذهاب إلى لندن لحضور المباحثات».
وفى الثانى عشَر من أُغسطس، عقد الرئيس «جمال عبدالناصر» مؤتمرًا صحفيًا فى مبنى مجلس الأمة، وجَّه فيه بيانًا إلى العالم باللغة الإنجليزية عن مشكلة «قناة السويس»، وأعلن رفض مِصر حضور مؤتمر لندن.
بيان الحكومة المِصرية
جاء نصه كالآتى: «فى السادس والعشرين من يوليو، أعلنت الحكومة المِصرية تأميم شركة قناة السويس، وقد صدر بذٰلك قانون نص على تعويض حملة الأسهم على أساس آخر سعر فى بورصة باريس فى اليوم السابق على العمل بهٰذا القانون.
وقد تسلمت إدارة القناة من هٰذا التاريخ هيئة مستقلة لها ميزانية مستقلة. وقد زودت هٰذه الهيئة بكل السلطات الضرورية دون التقيد بالقواعد والنظم الحكومية».
وفى الثالث من أغسطس، تلقت وَزارة الخارجية من السفارة البريطانية بالقاهرة مذكرة من الحكومة البريطانية تتضمن نص البيان الصادر عن حكومات الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا حول تأميم مصر لشركة قناة السويس.
وبالإضافة إلى ذٰلك البيان تسلمت الحكومة المِصرية دعوة لحضور المؤتمر المقترح عقده فى لندن يوم ١٦ أغسطس ١٩٥٦.
إن الحكومة المِصرية لا توافق على ما جاء فى تصريح وزراء خارجية الدول الغربية الثلاثة الخاص بشركة قناة السويس. فإن هٰذا البيان حاول بكل الوسائل أن يُعطى لشركة قناة السويس صفة غير صفتها الحقيقية؛ حتى يخلق الأسباب التى تبرر التدخل فى شؤون من صميم الريادة المصرية:
١- فقد نصت الفقرة الأولى من التصريح على أنه: «كان لشركة قناة السويس دائمًا طابع دُولىّ».
وتأسف الحكومة المصرية إذ تعلن أن هٰذا الأمر ليس له نصيب من الحقيقة، فشركة قناة السويس شركة مساهمة مِصرية مُنحت امتيازها من الحكومة المصرية لمدة ٩٩ عامًا.
وتنص المادة ١٦ من الاتفاق المعقود بين الحكومة المصرية والشركة عام ١٨٦٦م على أن: «شركة قناة السويس شركة مصرية تخضع لقوانين البلاد وعُرفها»
بل إن الحكومة البريطانية نفسها اعترفت بهٰذه الحقيقة، ودافعت عن وِجهة النظر هٰذه أمام المحاكم المختلطة فى مِصر؛ فقد جاء فى المذكرة المقدمة من وكيل الحكومة البريطانية لمحكمة استئناف الإسكندرية المختلطة عام ١٩٣٩م التوكيد التالى: «إن شركة قناة السويس شخص معنوىّ بحكم القانون المِصرىّ الخاص، وإن جنسيتها وصيغتها مصرية بحتة، ولا يمكن أن تكون غير ذٰلك، وتسرى عليها حتمًا القوانين المِصرية».
حقاً إن هٰذه الشركة تأسست باسم «شركة قناة السويس البحرية العالمية»، ولٰكن ما النتائج القانونية التى تترتب على هٰذه التسمية؟ من الثابت أن هٰذه التسمية لا يترتب عليها بأى حال من الأحوال سلب الشركة جنسيتها المِصرية، فهى مِصرية بحكم المبادئ القانونية العامة، وعلى الأخص بحكم مبادئ القانون الدُّولىّ الخاص، وعقد تأسيسها.
إنها مِصرية لأنها مُنحت التزامًا منصبَّا على أملاك عامة مِصرية، وإنه لا يتأتَّى أن تكون مِصرية وغير مِصرية فى الوقت ذاته، أى إنها تكون مِصرية وعالمية؛ فإن ذٰلك يتنافى والمبادئ القانونية العامة.
٢- وجاء فى الفقرة نفسها من التصريح أنه: «فى سنة ١٨٨٨م، وقَّعت جميع الدول الكبرى ذات المصلحة فى المحافظة على الصيغة الدولية للقناة، وعلى حرية الملاحة فيها، بغض النظر عن تبعية السفن- وقَّعت جميع هٰذه الدول اتفاق القسطنطينية».
ومراعاةً لمصلحة العالم أجمع نص الاتفاق على ضمان الصِّبغة الدولية للقناة بصفة دائمة، بصرف النظر عن انتهاء امتياز الشركة.
وتأسف الحكومة المِصرية لأن تصريح وُزراء الخارجية الثلاثة يشوه الوقائع، ويعطيها صورة بعيدة عن الواقع بمحاولته منح القناة صفة دولية. فقد جاء فى مقدمة اتفاق ١٨٨٨م الخاص بضمان حرية استعمال قناة السويس: «إن الغرض من الاتفاق هو وضع نظام يضمن لجميع الدول حرية استعمال القناة».
كما تنص المادة الأولى من الاتفاق على أن: «تظل القناة على الدوام حرة ومفتوحة؛ سواء فى وقت الحرب أو فى وقت السلم لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز لجنسيتها».
أمّا المادة الثالثة عشرة من اتفاق عام ١٨٨٨م فتنص على أنه: «فيما عدا الالتزامات المنصوص عليها صراحة فى مواد الاتفاق الحالىّ؛ ليس هناك ما يمَس بأىّ طريقة من الطرق حقوق السيادة للحكومة المِصرية».
وتبين المادة الرابعة عشْرة من الاتفاق بوضوح أنه لا عَلاقة مطلقًا بين اتفاقية ١٨٨٨م وشركة قناة السويس، فهى تنص على أن: «الالتزامات الناتجة عن الاتفاقية الحالية تتقيد بمدة الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس».
والمعروف أن امتياز الشركة كان لينتهى خلال اثنَى عشر عامًا، وتحِل الحكومة المِصرية محل الشركة فى إدارة القناة.
٣- وتأسف الحكومة المِصرية كذٰلك لأن التصريح الذى أصدره الوُزراء الثلاثة قد ذكر بعض الحقائق، وأغفل البعض الآخر الذى يثبت حق مِصر، وذٰلك دليل آخر على نية التدخل فى شؤون مِصر الداخلية؛ فقد جاء فى الفقرة الأولى من التصريح أن مِصر فى اتفاقها مع بريطانيا عام ١٩٥٤م اعترفت فى المادة الثامنة أن قناة السويس «ممر مائىّ ذو أهمية دُولية من النواحى الاقتصادية والتِّجارية والاستراتيجية»، وأغفل التصريح الجزء الأول من المادة الثامنة الذى يقرر بأسلوب لا يقبل الجدل أن: «القناة جزء لا يتجزأ من مصر».
وفى الفقرة الثانية من التصريح تعترف الحكومات الثلاث بحق مِصر كدولة مستقلة ذات سيادة فى تأميم ممتلكاتها، ولٰكنها تناقش حق مِصر فى تأميم شركة قناة السويس المِصرية بحُجة أنه «يتضمن استيلاءً تعسفيًّا انفراديًّا من دولة واحدة على وَكالة دولية مسؤولة عن إدارة قناة السويس وصيانتها؛ بحيث يستطيع الموقعون على اتفاقية ١٨٨٨م الذين يستفيدون منها استخدام ممر مائىّ دُولىّ يعتمد عليه اقتصاد وتجارة وسلامة معظم دول العالم».
ومن الواضح كل الوضوح أن حكومات التصريح الثلاثىّ تصر على الارتكاز على زعم أن شركة قناة السويس وَكالة دُولية، وعلى أن الحكومة المِصرية لا تستطيع أن تغير من وضعها؛ وهٰذا إغفال لجميع المعاهدات والاتفاقات التى تنص على أن شركة قناة السويس شركة مساهَمة مِصرية تدار وَفقا للقانون المِصرى، كما يتجاهل أن الحكومة المِصرية ستتسلم إدارة القناة عندما ينتهى أجل امتيازها، ويغفل أنها جزء لا يتجزأ من مِصر.
واتفاقية ١٨٨٨م قائمة سواء كانت الشركة هى التى تدير القناة أو تديرها الحكومة المِصرية، وذٰلك مما يدل على أن التصريح يزيف الحقائق ليبرر التدخل فى شؤون مِصر الداخلية، فليس هناك سند قانونىّ على الإطلاق يُظهر شركة مصرية مساهمة تخضع للقوانين المِصرية كأنها وَكالة دُولية عهد إليها بضمان الملاحة فى القناة.
وبِناءً على ذٰلك، فإن تأميم الحكومة المِصرية لشركة قناة السويس المِصرية قرار صادر من الحكومة المِصرية بمقتضى حقها فى السيادة، وأى محاولة لإعطاء شركة قناة السويس صفة دولية ليس إلا تبريرًا للتدخل فى شؤون مِصر الداخلية.
وللبيان بقية، فالحديث عن مِصر الحُلوة لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى