تحدثنا فى المقالة السابقة عن لجنة «مينزيس» ومحاولات مفاوضة مِصر بشأن تدويل قناة السويس، ورفض مِصر القاطع لاعتبار قناة السويس غير مِصرية. وقد عاد «مينزيس» إلى لندن مؤكدًا أن الحل العسكرى هو الحل الوحيد لإرغام «عبدالناصر» على تغيير موقفه. وفى الوقت نفسه، كانت هناك محاولات لإحراج مِصر دُوليًا وإظهارها عاجزة على إدارة قناة السويس، وذٰلك بتحريض المرشدين على الامتناع عن العمل، وهو ما يؤدى إلى وقف الملاحة.
محاولات تعطيل الملاحة:
فى العاشر من سبتمبر 1956م، وجَّهت الحكومة المِصرية مذكرة إلى 45 دولة تدعو فيها إلى إقامة مؤتمر يعيد النظر فى اتفاقية القسطنطينية سنة 1888م، ويضع اتفاقًا يؤكد الاهتمام بمصلحة جميع الدول فى حرية الملاحة فى القناة. وأشارت المذكرة إلى أن رُسوم العبور تكون عادلة، ويُعوض حملة الأسهم فى شركة القناة المؤمَّمة.
وفى الحادى عشَر من سبتمبر، كانت تُدبر المكائد لحساب المرشدين الأجانب من القناة لتعطيل سير الملاحة فيها، وتمكنت الاستخبارات المِصرية من الحصول على صورة وثيقة تُعلِن إيقاف الملاحة فى القناة ليلة الـ14/ 15 من سبتمبر، لقلب الرأى العام العالمى ضد مِصر، وإظهار عدم قدرتها على إدارة القناة، ما يستدعى التدخل البريطانى الفرنسى.
وفى الثانى عشَر من سبتمبر، أبلغت الخارجية المِصرية «داج همرشولد»، السكرتير العام للأمم المتحدة، ووفود الدول الأعضاء بالهيئة الدُّولية، بإصدار شركة قناة السويس المؤمَّمة أوامرها إلى الموظفين غير المِصريين بالقناة أن يتركوا أعمالهم، اعتبارًا من ليلة الـ14 /15 من سبتمبر، وأن مِصر ستتدبر الأمور لترتيب استمرار الملاحة فى القناة بأفضل أسلوب، وحذرت أنه فى حالة حدوث أى أحداث خارجة عن إرادتها تتسبب فى تعطل الملاحة، فإن هٰذا يُلقى بالمسؤولية على عاتق الجهات التى تسببت فى ذٰلك.
وفى الخامس عشَر من سبتمبر، غادر المرشدون والعاملون الأجانب القناة تاركين أعمالهم، تنفيذاً لأوامر شركة قناة السويس المؤمَّمة، لٰكنّ المرشدين اليونانيِّين آثروا أن يستمروا فى أعمالهم، ولم يتركوها لمؤازرة المرشدين المِصريين فى عملهم. وقد كان عدد العاملين بشركة قناة السويس آنذاك يبلغ 204 مرشدين، منهم 61 بريطانيًّا، و53 فرنسيًّا، و14 هولنديًّا، و12 يونانيًّا، و11 نرويجيًّا، و3 دِنْماركيِّين، وإيطاليّان، وأمريكيّان، وبلچيكيّان، وسويديّان، ويوغوسلافى واحد، وبولندى واحد، وكان عدد المرشدين المِصريين 40 مرشدًا. وقد أدركت مِصر آنذاك أهمية اعتماد الملاحة فى القناة على أبنائها، فزادت عددَ المرشدين المِصريِّين، فى مرحلة ما بعد قرار التأميم حتى الخامس عشر من سبتمبر إلى 70 مرشدًا مِصريًّا، ودُرب عدد من المرشدين اليونانيِّين واليوغوسلاڤ وجنسيات أخرى فى وقت قصير؛ للتصدى لأى مؤامرات تهدُف إلى تعطيل الملاحة وضرب مِصر عسكريًّا.
وقد أدت البحْرية المِصرية دورًا مهمًّا إزاء محاولات إحراج مِصر على المستوى الدُّولى، فبينما هدفَ التخطيط إلى توقف الملاحة فى قناة السويس، من خلال استرجاع المرشدين، وهو ما أدى إلى رفع قيمة التأمين على حمولة السفن المارة بالقناة بنسبة 250%، كانت الإدارة المِصرية تستعد للتصدى لتلك المؤامرة عن طريق تدريب عدد من ضباط البحْرية المِصرية على عملية الإرشاد تحسبًا لأى مفاجآت. كذٰلك أبرمت تعاقدًا مع 71 مرشدًا جديدًا، من بينهم 47 مرشدًا مِصريًّا. ومن ثم كانت المفاجأة للعالم أن سَير الملاحة فى القناة لم يتوقف، وإنما أديرت القناة، واستمرت الملاحة فيها على أعلى مستوى.
الإعداد للعُدوان الثلاثى:
وفى الثامن عشَر من سبتمبر، شهِدت باريس لقاءً بين كل من وزيرَى الدفاع الإسرائيلى «شيمون بيريز» والفرنسى «موريس بورجيس مونورى» الذى أشار إلى موقف فرنسا فى الدعوة إلى بَدء عمل عسكرى ضد مِصر، وأوضح أن الموقف البريطانى أيضًا يؤيد العمل العسكرى، ولٰكنهم يرَون احتياجهم إلى بعض الترتيبات السياسية التى تستغرق قرابة شهرين. ثم سأل وزير الخارجية عن الموقف الإسرائيلى من الترتيبات ضد مِصر، وكان رد «بيريز» بعد يومين من اللقاء هو استعداد إسرائيل لتُعاون فرنسا سياسيًّا وعسكريًّا فى شن حرب على مِصر.
وفى الـ25 من سبتمبر، عرض «بن جوريون» على مجلس الوُزراء الإسرائيلى التعاون بين إسرائيل وفرنسا فى الأعمال العسكرية ضد مِصر، وقال: «إن أمامنا قرارًا استراتيچيًّا، ربما هو أخطر قرار، مثل تأسيس الدولة، ومن رأيى قَبوله، ففرصة تعاوننا نحن ودولة كبيرة مثل فرنسا لن تتاح لنا مرة أخرى. وقد وافق مجلس الوزراء.
وفى الثامن والعشرين من سبتمبر، سافر وفد إسرائيلى إلى فرنسا يحمل التوصيات التالية:
1. إن إسرائيل لن تشُن حربًا وحدها، وإذا طُلب منا القيام بعمل بالتوازى مع بريطانيا وفرنسا، فإننا سنبحث ذٰلك بتفهم.
2. إن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تكون على علم بالعمليات المرتقبة، ويجب ألا يكون لها اعتراض عليها، ويجب أن نتلقى تأكيدًا بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تفرض عقوبات أو حظرًا من أى نوع ضد إسرائيل.
3. إن بريطانيا يجب أن تكون على علم بما يجرى، ويجب أن توافق، وأن تتعهد بألا تساعد أى دولة عربية تنضم إلى مِصر.
4. إن هدفنا هو أن تُحقَّق السيطرة الإسرائيلية على الشواطئ الغربية لخليج العقبة، كضمان لحرية مرور السفن الإسرائيلية فى ذٰلك الممر المائى، وربما فكرنا فى نزع سلاح سيناء كاملًا ووضعها تحت رقابة قوة دُولية».
ومع عودة الوفد الإسرائيلى، دعا «ديّان» هيئة الأركان لإبلاغهم بأن هناك احتمالًا بات مؤكَّدًا، لعمل عسكرى مشترك مع كل من فرنسا وبريطانيا ضد مِصر، ويذكر «ديان» فى مذكراته: «قلتُ لهم إننا لن نصدر الأمر بالتعبئة العامة فى هٰذه المرحلة، ولٰكن الترتيبات للتعبئة يمكن أن تبدأ الآن». كذٰلك عقد اجتماعًا بالهيئة الداخلية لقسم العمليات لعرض «العملية قادش» عليها، التى تهدُف إلى احتلال تقاطع الطرق والمواقع الرئيسية التى تتيح لإسرائيل السيطرة على المنطقة، وتؤدى إلى استسلام القوات المِصرية.
وفى ذٰلك الوقت، كانت بريطانيا تحاول عمل ترتيباتها السياسية لشن الهجوم العسكرى على مِصر، وبخاصة بعد فشل مؤامرة تعطيل القناة، فكان الاتفاق بين «إيدن» و«دالاس» على عقد مؤتمر لندن الثانى لعرض ما توصلت إليه لجنة «مينزيس» فى مفاوضة الجانب المِصرى على مشروع الـ18. وقد قدم «دالاس» اقتراحًا بتكوين جمعية للمنتفعين من قناة السويس تستأجر المرشدين وتنظم الملاحة وتُدير القناة، لٰكنّ مِصر عارضت المشروع. وقد أيدت 29 دولة الموقف المِصرى قبل انعقاد مؤتمر لندن الثانى.
«مؤتمر لندن الثانى» التاسع عشَر من سبتمبر 1956م:
افتُتحت أعمال المؤتمر برئاسة وزير الخارجية البريطانى «سلوين لويد». وفى أولى جلسات المؤتمر، ألقى رئيس المؤتمر خطابًا أعلن فيه فشل المساعى الدُّولية من خلال لجنة «مينزيس» فى مفاوضة مِصر بشأن القناة، وأكد أن اقتراحات الـ18 ما زالت مطروحة. ولتبرير الأعمال المعادية لمِصر، أكد «لويد» فكرة تدويل القناة من خلال الإشارة إلى أن شركة قناة السويس هى جزء من اتفاقية عام 1888م، وأنه يجب الحفاظ على مصالح الدول التى تستخدمها. وبرر أن التدخل الدُّولى من خلال الجمعية المقترحة إنما يحمى قناة السويس على كلا المستويَين السياسى والفنى.
وناقش المؤتمر الاقتراح المِصرى أن مِصر تدعو إلى عقد مؤتمر عالمى لبحث المشكلة، وأعلن أن الاقتراح غامض، ولا ينطوى على قواعد صالحة للمناقشة. وقد أصدر المؤتمر بيانًا بإنشاء هٰذه الجمعية وعقد مؤتمر آخر لبحث إجراءات إنشائها. وهٰكذا فشل مؤتمر لندن الثانى، ولم يعُد هناك بديل آخر سوى التدخل العسكرى ضد مِصر، الذى لم تتوقف إعدادات كل بريطانيا أو فرنسا له، من خلال تحركات القوات المستمرة، وحشدها فى قبرص ومالطا، للعُدوان على مِصر.
شكوى إلى مجلس الأمن:
فى الثالث والعشرين من سبتمبر 1956م، قدمت كل من بريطانيا وفرنسا إلى مجلس الأمن شكوى فى مِصر وقيادتها أنها اتخذت قرارًا بانتهاء نظام الإدارة الدُّولية لقناة السويس، الذى أشارت إليه، وأكدته معاهدة القسطنطينية عام 1888م.
وقد كانت الشكوى المقدمة إلى مجلس الأمن ما هى إلا ستار لشغل أنظار العالم ومِصر عن استخدام القوة العسكرية، ووسيلة لإقناع العالم أنه قد استُنفدت جميع الحلول السلمية مع مِصر، ففى التاسع والعشرين من سبتمبر، جرت محادثات بين بريطانيا وفرنسا فى باريس أُعلن فيها أنها تهدُف إلى تقوية التعاون بين الدولتين فى جميع المجالات، وفيها حُدِّد الثامن من أكتوبر لاستخدام القوة ضد مِصر، وأشير إلى قَبول إسرائيل فى المشاركة العسكرية.
ثم فى الخامس من أكتوبر، بدأ اجتماع مجلس الأمن، وقدم وزيرا الخارجية لبريطانيا وفرنسا اقتراحًا هو مشروع قرار يحمل فى ثناياه القرارات التى اتخذتها لجنة الثمانية عشرة فى اجتماع لندن و…
وعن مصر الحلوة، الحديث لا ينتهى…!