تحدثنا فى المقالة السابقة عن فشل بريطانيا وفرنسا فى محاولات تعطيل الملاحة فى قناة السويس، والاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية إلى مِصر، واستعداد إسرائيل لمعاونتهما. ثم جرى عقد مؤتمر لندن الثانى فى الـتاسع عشَر من سبتمبر؛ وتقدمت كل من بريطانيا وفرنسا بشكوى إلى مجلس الأمن ضد قرار مِصر بتأميم قناة السويس. وقد اجتمع مجلس الأمن فى الخامس من أكتوبر بتقديم الدولتين مشروعهما الذى يحمل فى ثناياه فكرة عمل لجنة دولية لإدارة القناة.
وفى جلسات مجلس الأمن، تحدث السيد «مُحمد فوزي» وزير خارجية مصر آنذاك، مؤكدًا موقف مِصر من رفض للاقتراحات المطروحة أن تُفصل قناة السويس عن مِصر وتدويلها. كذٰلك تقدم بتوصية لإنشاء هيئة للمفاوضات تراعى حرية الملاحة فى القناة ومصالح المنتفعين من خلال هيئة قناة السويس المِصرية. وأعلنت روسيا موقفها من رفض للاقتراحات المقدمة من بريطانيا وفرنسا، فى حين جاءت كلمات وزير الخارجية الأمريكيّ «چون فوستر دالاس» عن أن الاقتراح المِصريّ يحتوى على جانب جيد ألا وهو الاقتراح المقدم بإقامة مفاوضات بين جمعية المنتفعين ومِصر.
ويذكر المؤرخون والباحثون أنه كانت هناك محادثات سرية جرت بين وُزراء الخارجية: المِصريّ «محمود فوزي»، والبريطانيّ «وسلوين لويد»، والفرنسيّ «كريستيان بينو»؛ فى مكتب «داغ همرشولد» الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك؛ وانتهت فى الـحادى عشَر من أكتوبر إلى تقديم الأمين العام للأمم المتحدة مذكرة تحتوى على مبادئ ستة:
1. أن يكون المرور عبر القناة حرًّا ومفتوحًا ودون تميز مباشر أو غير مباشر لجميع السفن.
2. أن تُحترم سيادة مِصر.
3. أن تُعزل إدارة القناة عن سياسة أى دولة.
4. أن تُقرَّر رسوم القناة بالاتفاق بين مصر والمنتفعين.
5. أن تُخصَّص نسبة عادلة من الرسوم لتنمية القناة.
6. فى حالة الخلاف بين الحكومة المِصرية وشركة القناة، يُلجأ إلى التحكيم.
وقد عرض «همرشولد» المبادئ الستة فى اجتماع مجلس الأمن حيث أعلنت مِصر قبولها المبادئ الستة، مع تحفظها على المبدأ الثالث الذى يعزل القناة عن السياسة المِصرية. أمّا بريطانيا، فقد أعلنت أن مشروع الثمانى عشْرة لا يزال هو الأفضل.
وفى الثالث عشَر من أكتوبر، قدَّمت بريطانيا وفرنسا مشروع قرار جديد يحتوى على المبادئ الستة التى عرضها «همرشولد»، وإعادة تأكيد مقترحات الدُّول الثمانى عشْرة فى مؤتمر لندن. وعُرض المشروع على مجلس الأمن للتصويت على قسمين: المبادئ الستة وقد وافق عليها المجلس بالإجماع، ومشروع الثمانى عشْرة وقد أيدته تسع دُول فى حين عارضته مِصر والاتحاد السوڤيتى ويوغوسلاڤيا؛ وبذٰلك أسقطه الڤيتو السوفيتيّ. وتقرر أن تبدأ المباحثات بين وُزراء خارجية الدول الثلاث مِصر وفرنسا وبريطانيا فى چنيف يوم التاسع والعشرين من أكتوبر؛ لمناقشة وسائل تنفيذ المبادئ الستة.
وفى أثناء انعقاد جلسات مجلس الأمن، غادر وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا فجأة جلسات مجلس الأمن؛ لحضور اجتماع فى باريس يوم السادس عشَر من أكتوبر بين رئيس الوزراء الفرنسيّ ونظيره البريطانيّ؛ لبحث خُطة إسرائيل العُدوانية ضد مِصر التى كان مقررًّا لها الأول من نوڤمبر.
معاهدة سيفر:
اجتمع ممثلو كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فى مدينة فرنسية تدعى «سيفر»، فى الثانى والعشرين من أكتوبر 1956م، حيث وقعوا على وثيقة سُمِّيت «سيفر» نصت على أن:
1. تقوم القوات الإسرائيلية بخلق حالة صراع مسلح على مشارف قناة السويس، لتستغل بريطانيا وفرنسا ذٰلك ذريعة للتدخل العسكرى ضد مِصر.
2. توفر القوات الفرنسية الحماية الجوية لإسرائيل، كما توفر القوات البحْرية الفرنسية الحماية البحرية للمياة الإقليمية الإسرائيلية.
3. تُصْدر بريطانيا وفرنسا إنذارا مشتركًا لكل من مِصر وإسرائيل لوقف أعمال القتال والابتعاد عن القناة، مع قَبول مِصر احتلال منطقة قناة السويس احتلالًا مؤقتا بواسطة القوات الإنجلوفرنسية لحماية الملاحة البحْرية فيها.
4. تقوم القوات الجوية البريطانية بتدمير المطارات والطائرات والأهداف العسكرية المِصرية، وتحقيق السيطرة الجوية فى سماء مِصر.
5. تدافع فرنسا عن موقف إسرائيل فى الأمم المتحدة، وفى نفس الوقت تبذُِل بريطانيا جهودها ـ بصفة سرية ـ بالاتصالات الخاصة لمساندة إسرائيل، دون أن تكشف علانية عن ذٰلك حتى لا يضار مركزها فى الوطن العربيّ.
6. وبالمقابل تتعهد الحكومة الفرنسية بإمداد حكومة إسرائيل بمفاعل ذريّ له القدرة على إنتاج القنابل الذرية.
ومع توقيع معاهدة «سيفر»، بدأت الاستعدادات العسكرية للهجوم على مِصر؛ وقد وصلت التقارير إلى أمريكا بوجود تعبئة عامة فى إسرائيل ما جعل الرئيس الأمريكيّ «أيزنهاور»، آنذاك، يرسل إلى «بن جوريون» رسالة يطلب فيها عدم استخدام السلاح وتهديد السلام فى الشرق الأوسط. وفى الثامن والعشرين من أكتوبر، استطاعت الاستخبارات الأمريكية أن تصل إلى أن هدف إسرائيل هو مِصر وليس الأردن؛ إلا أن الأمر كان يتبقى على تنفيذه ساعات قليلة.
كذٰلك اتُّفق على إعلان بيان رسميّ بعد بَدء القتال يقول: (أعلن المتحدث العسكريّ أن قوات جيش الدفاع الإسرائيليّ قد دخلت إلى منطقتى “الكونتيلا” و”رأس النقب”، وتتقاتل مع وحدات الفدائيِّين، وأنها احتلت مواقع غرب ملتقى طرق نخل قرب قناة السويس. وقد جاء هٰذا العمل ردًّا على اعتداء الجيش المِصريّ على خطوط المواصلات الإسرائيلية فى البر والبحر، بهدف تدميرها وحرمان المواطنين الإسرائيليِّين من الحياة الآمنة).
العُدوان الثلاثيّ
بدأ العُدوان الإسرائيليّ على مِصر فى سيناء فى يوم التاسع والعشرين من أكتوبر 1956م، بعد أن أسقطت إسرائيل كتيبة مظلات فوق الجهة الشرقية لممر «متلا»، لتسمح بخلق فرصة للتدخل البريطانيّ الفرنسيّ. وكانت القيادة المِصرية قد قررت سحب قوة الجيش الرئيسية فى سيناء، والاستعداد فى الدلتا حال حدوث أيّ هجوم، بعد الاستعدادات العسكرية التى بدأت فى بريطانيا وإنجلترا، مع قرار التأميم والتهديدات باستخدام القوة ضد مِصر. وقد أصدرت إسرائيل بيانًا عسكريًّا يقول: (… يُعلن المتحدث بلسان جيش الدفاع الإسرائيليّ أن قوات جيش الدفاع الإسرائيليّ دخلت وأصابت وِحْدات الفدائيِّين فى “رأس النقب” و”الكونتيلا”، واحتلت مواقع غرب مركز تقاطع طرق نحل للداخل من قناة السويس…).
وطبقًا لمعاهدة «سيفر»، استدعت وزارتا خارجية بريطانيا وفرنسا سفيرى مِصر بلندن وباريس ليتسلما إنذارًا بريطانيًّا فرنسيًّا، يطالب مِصر وإسرائيل بالانسحاب بعيدًا عن قناة السويس إلى مسافة عشَرة أميال، لعدم تعريض القناة للخطر، ويطلبان من الحكومة المِصرية:
1. أن تُوقف فورًا كل الأعمال الحربية فى البر والبحر والجو.
2. سحب كل القوات المِصرية إلى مسافة عشَرة أميال غرب القناة.
3. أن تحتل القوات البريطانية والفرنسية مواقع رئيسية فى بورسعيد والإسماعيلية والسويس، حتى يمكن ضمان حرية مرور سفن جميع الدول فى القناة، وحتى يمكن فصل القوات المتحاربة.
كما طلبت الحكومتان ردًّا مِصريًّا خلال اثنتَى عشرة ساعة؛ وإلا ستتدخل القوات البريطانية والفرنسية لحماية القناة. وقد رفضت مِصر الإنذار الموجَّه إليها من بريطانيا وفرنسا، وأصدرت القيادة العامة المِصرية بلاغًا رسميًّا أذيع فى الإذاعة المِصرية بعد منتصف الليل، عن سيطرة القوات المِصرية على الموقف الذى نشأ من عُدوان إسرائيل، وأكدت عدم تعرض قناة السويس لأيّ تهديد عسكريّ، وأن قوافل السفن تعبر القناة بأمن كامل وسلامة تامة، وأن القوات المسلحة قادرة على حماية قناة السويس فى كل الظروف.
وهٰكذا بدأ العُدوان الثلاثيّ فى الساعة الخامسة من عصر يوم الاثنين التاسع والعشرين من أكتوبر، عندما أسقطت الأركان العامة الإسرائيلية الكتيبة «890 مظلات»؛ ليتبعه إنذار من فرنسا وإنجلترا يوم الثلاثين من أكتوبر 1956م. وفى الحادى والثلاثين من أكتوبر، بدأ القصف الجويّ من القوات البريطانية الفرنسية التى ضربت المطارات المصرية. ونزلت القوات البريطانية والفرنسية فى بورسعيد ومنطقة قناة السويس، وقد أعلنت وزارتا الدفاع فى بريطانيا وفرنسا بَدء العمليات الحربية برًّا وبحرًا ضد المواقع المِصرية فى منطقة القناة بقيادة الجنرال «كيتلي» القائد العام للقوات البريطانية، لتتعرض مِصر لهجوم بريّ وبحريّ وجويّ لتدمير القوات المِصرية. إلا أن مِصر بجيشها العظيم وشعبها الأبيّ، اللذين لا يقبلان التنازل عن الوطن أو الكرامة، تصديا للعُدوان ليخُطا بطولات جديدة على صفحات التاريخ فى كفاح ونضال لم يتوقفا حتى انتهى القتال فى الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 6-7 من نوڤمبر 1956م، بصدور قرار مجلس الأمن أن يوقَف إطلاق النيران، لتنسحب القوات البريطانية والفرنسية فى الثانى والعشرين من ديسمبر، وتنسحب القوات الإسرائيلية من سيناء فى السادس من مارس 1957م و… وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىالقبطى الأرثوذكسى