تحدثنا فى المقالة السابقة عن المرحلة التى سبقت العُدوان الثلاثيّ على مِصر من اجتماعات لمجلس الأمن، بعد تقديم بريطانيا وفرنسا شكوى ضد تأميم مِصر لقناة السويس، ومعاهدة «سيفر» التى وُضعت فيها خُطة العُدوان على مِصر من قِبل الدول الثلاث بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. ثم وقوع العُدوان الثلاثيّ على مِصر الذى انتهى إلى الفشل، بعد صدور قرار مجلس الأمن وقف إطلاق النيران وانسحاب قوات العدوان، فى الفترة ما بين الثانى والعشرين من ديسمبر 1956م والسادس من مارس 1957م.
دُور القوى العظمى والمجتمع الدُّوليّ فى العُدوان الثلاثيّ
أولًا: الاتحاد السوڤيتيّ
كان للاتحاد السوفيتى دور بارز مع بَدء العُدوان الثلاثيّ على مِصر؛ فقد وجه إنذارًا مباشرًا إلى إسرائيل، ونصه:
«السيد/ داڤيد بن جوريون
إن الحكومة الإسرائيلية المجرمة التى تفتقر إلى الشعور بالمسؤولية، تتلاعب الآن بأقدار العالم وبمستقبل شعبها بالذات».
ووجه إنذارًا إلى بريطانيا وفرنسا، ونصه:
«سير/ آنتونى إيدن
مسيو/ چى موليه
ترى الحكومة السوڤيتية أنها مضطرة إلى لفت نظركم عن الحرب العدوانية التى تشُنها بريطانيا وفرنسا ضد مِصر، التى لها أوخم العواقب على قضية السلام. كيف كانت بريطانيا تجد نفسها، إذا ما هاجمتها دولة أكثر قوة، تملِك كل أنواع أسلحة التدمير الحديثة؟
إن هناك دولة الآن لا يلزمها إرسال أسطول أو قوة جوية إلى سواحل بريطانيا، ولٰكن يمكنها استخدام وسائل أخرى مثل الصواريخ.
إننا مصممون على سحق المعتدين، وإعادة السلام إلى نصابه فى الشرق الأوسط، عن طريق استخدام القوة. إننا نأمُل، فى هٰذه اللحظة الحاسمة، أن تأخذوا حَذَركم، وتفكروا فى العواقب المترتبة على ذٰلك».
«مارشال بولجانين»
وبعد حدوث العُدوان الثلاثيّ، وضرب مِصر برًّا وبحرًا وجوًا، أرسل «بولجانين» رئيس الوزراء السوڤيتى إلى «بن جوريون» رئيس وزراء إسرائيل رسالة فى الخامس من نوڤمبر 1956م؛ احتوت على إدانة روسيا الكاملة للعُدوان المسلح على مِصر الذى يُعد خرقًا لميثاق الأمم المتحدة ومبادئها. إن أغلبية دول العالم أدانت هٰذا التصرف العُدوانيّ فى الاجتماع الاستثنائيّ للجمعية العامة للأمم المتحدة، وطالبت بإنهاء العمليات الحربية فى الحال.
كذلك وجّه أيضًا رسالة إلى سير «آنتونى إيدن» رئيس وزراء بريطانيا، معلنًا أن الحرب ضد الدولة المِصرية تهدد السلام العالميّ، وأنه، بالرغم من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، فى جِلستها الاستثنائية، إيقاف العمليات الحربية فورًا، لٰكن الدول الثلاث: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ما تزال مستمرة فى توسعاتها الحربية، وقتل المدنيِّين فى الأراضى المِصرية، دون استفزاز من مِصر. وعلق فى رسالته على مبررات الحرب فقال: «وإن الدوافع التى تبرر بها حكومة المملكة المتحدة هجومها على مِصر، هى دوافع كلها لا نصيب لها من الصحة. وقد ذكرت الحكومة البريطانية فى بادئ الأمر أنها تدخلت فى الصراع بين إسرائيل ومِصر لكى تَحُول دون جعل منطقة السويس منطقةً للعمليات الحربية. وبعد تدخل البريطانيِّين والفرنسيِّين، أصبحت فعلًا منطقة قناة السويس منطقةً للعمليات الحربية، وتعطلت الملاحة فى قناة السويس، مما يضر بمصالح الأمم التى تستعمل قناة السويس. وإن المحاولات التى تتذرع بها المملكة المتحدة وفرنسا لتبرر عُدوانهما، بالإشارة إلى مصالحها فى حرية الملاحة فى قناة السويس، هى أيضًا محاولات لا نصيب لها من الصحة. ونحن نفهم مصلحتكم الخاصة فى القناة».
وقد تحدث عن عدم أحقية الدولتين فى القيام بعمليات حربية ضد مِصر، وألا تُعطيا الحق لأنفسهما فى الحكم فى أمر تأمين حرية الملاحة فى قناة السويس. وقد طالب الدولتين بأن تقوما بحفظ «الأمن والسكينة فى الشرقين الأدنى والأوسط، ويعلم الجميع كل العلم، أن مِصر كانت تؤَمن حرية الملاحة فى قناة السويس، وتحافظ عليها محافظة تامة، وأن قناة السويس لم تكُن سوى عذر للعُدوان الأنجلوفرنسيّ، الذى له أغراض حربية بعيدة المدى. ولا يخفى أن الحرب العُدوانية المسلحة فى حقيقتها هى حرب موجهة ضد الأمة العربية، وهدفها إزالة الاستقلال الوطنيّ للدول فى الشرقين الأدنى والأوسط، وإعادة بناء نظام العبودية الاستعمارية، الذى تأباه الشعوب العربية». كذٰلك أوضح «بولجانين» أن قوات الدولتين قد هاجمت دولةً (مِصر) لم تنَل استقلالها الوطنيّ، إلا قبل عهد قريب، وليست لديها الوسائل الكافية للدفاع عن النفس. وتساءل: «وماذا يكون موقف المملكة المتحدة، إذا هاجمتها دول أقوى منها، ولديها جميع أنواع الأسلحة المدمرة الحديثة؟… فإنكم بطبيعة الحال قد تَصفون هذه الأعمال أعمالًا وحشية.
ولكن، فى أية طريقة من الطرائق يختلف هٰذا عن الهجوم غير الإنسانيّ الذى شنته القوات المسلحة التابعة للمملكة المتحدة وفرنسا على مِصر، التى ليست لديها إمكانات للدفاع تقريبًا». ثم طالب بريطانيا بالإصغاء إلى صوت العقل، ووقف العُدوان المسلح، وحقن الدماء النازفة المُراقة لئلا تصل النتائج إلى قيام حرب عالمية ثالثة! وتحدث عن الاقتراح المشترك بين الاتحاد السوڤيتى والولايات المتحدة الأمريكية ووضع حد للحرب فى مِصر. وختم خطابه قائلًا: «إننا مصممون كل التصميم على سحق المعتدين، باستخدام القوة لكى نُعيد السلام فى الشرق الأوسط. ونأمُل أن تُظهروا الرويِّة والتبصر الصحيح، وأن تصلوا إلى نتائج ملائمة».
ثانيًا: الوِلايات المتحدة الأمريكية
ولم يكُن الوضع مع الولايات المتحدة الأمريكية مختلفًا بشأن الحرب ضد مِصر؛ فقد أشار الرئيس الأمريكى «آيزنهاور» بقطع المساعدات عن الدول الثلاث المعتدية عليها. وتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية، فى التاسع والعشرين من أكتوبر، بطلب إلى مجلس الأمن الإسراع فى الانعقاد لبحث اعتداء القوات المسلحة الإسرائيلية على الأراضى المِصرية، وهو ما تسبب فى خرق اتفاقية الهدنة بين البلدين فى مارس 1949م. وقد أبلغ «وليم راونتري» مساعد وكيل الخارجية الأمريكية سفير إسرائيل فى واشنطن «أبا إيبان» «أن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن إسرائيل مدانة فى هٰذه المرة بالعُدوان الصارخ، ويزعجها الأسلوب الأنجلوفرنسيّ حيال هٰذا العُدوان، ما يدفع واشنطن إلى الوقوف فى جانب واحد مع الإتحاد السوڤيتيّ».
قدَّمت الولايات المتحدة الأمريكية مشروعًا إلى مجلس الأمن فى الثلاثين من أكتوبر 1956م، احتوى على ثلاث نقاط:
1. مطالبة مِصر وإسرائيل بوقف إطلاق النار، مع انسحاب القوات الإسرائيلية خلف خطوط الهدنة والحدود الدولية.
2. مناشدة أعضاء المجلس أن تمتنع حكوماتهم عن تقديم المساعدات إلى إسرائيل، سواء عسكرية أو اقتصادية، ما دامت تصر على عدم تنفيذ هذا القرار.
3. تكليف السكرتير العام بتقديم مقترحات وتوصيات، تكفل تحقيق السلام والأمن.
إلا أن الاقتراح الأمريكيّ باء بالفشل بسبب استخدام بريطانيا وفرنسا حق الڤيتو.
وفى الثانى من نوڤمبر، طالبت الوِلايات المتحدة الأمريكية، مع عدد كبير من الدُّول الأعضاء فى الأمم المتحدة، بعقد دورة طارئة للجمعية العامة لبحث العُدوان الثلاثيّ على مِصر؛
وقد تقدمت بمشروع قرار يدعو إلى:…
1. دعوة جميع الأطراف إلى وقف الأعمال العدوانية، والالتزام فورًا بوقف إطلاق النار.
2. الانسحاب العاجل للقوات الإسرائيلية إلى ما وراء خطوط الهدنة الأصلية.
وقد صدر القرار بأغلبية ساحقة 46 صوتًا مقابل 5 أصوات هى: إسرائيل، أستراليا، فرنسا، بريطانيا، نيوزيلندا. ومع إعلان مِصر موافقتها على قرار الأمم المتحدة، تقدمت 19 دولة أفروآسيوية بمشروع قرار، يطالب جميع الأطراف بالالتزام بالقرار السابق؛ وتحققت الموافقة عليه بأغلبية 59 دولة مقابل 5 دُول. ثم أعلنت إسرائيل قَبولها قرار وقف إطلاق النار، ورفضها الانسحاب من سيناء. إلا أن الجمعية العامة أصرت على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضى المِصرية، وهدد الرئيس «آيزنهاور» بقطع المعونات الأمريكية عن إسرائيل حال عدم التزامها بقرارات الأمم المتحدة.
فطالبت إسرائيل ضمانات دُولية لأجل:
أ. الحصول على موافقة مِصر على الدخول معها فى مفاوضات من أجل تحقيق تسوية سلمية للنزاع القائم بينهما.
ب. عدم السماح للوجود المِصريّ بالعودة إلى قطاع «غزة».
ج. منح سفنها حق المرور الحر فى قناة السويس ومضيق «تيران».
ونتيجة الضغوط الدُّولية، أخرجت إسرائيل قواتها من سيناء، باستثناء «شرم الشيخ» وقطاع «غزة»، إلا أنها إزاء الضغوط الدولية، اضطرت إلى سحب قواتها من قطاع «غزة» فى الثامن من مارس 1957م، و… وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطىّّ الأرثوذكسىّ