يُعَد الشعب المِصرى من أعمق الشعوب وأعرقها فى مجال الاهتمام بحياة الإنسان الدينية، فالمِصرى إنسان يُجِل العَلاقة الروحية بالله، ويسعى دائمـاً لوجودها وتأصيلها فى حياته عبر الأزمان.
والصَّوم يُعد إحدى العقائد الأساسية فى جميع الأديان التى عرَفها البشر. وإذا تتبعنا أساس الصَّوم، نجد أنه يعود إلى آدم وحواء حين أمرهما الله ألا يأكلا من ثمر شجرة فى الجنة.
ويبدأ فى هذه الأيام صَوم الميلاد لدى المَسيحيين استعداداً للاحتفال بعيد الميلاد، الذى تعيد له الكنيسة القبطية الأُرثوذُكسية فى التاسع والعشرين من كيهك من السنة القبطية، الذى يوافق السابع من يناير فى التقويم الميلادى. وعيد الميلاد يُحتفل فيه بميلاد السيد المسيح من السيدة العذراء مريم، بعد أن بشرها رئيس الملائكة جَِبرائيل بأنها ستحبل وتلد طفلاً وتدعو اسمه يسوع، كما ورد: «… أُرسل جَِبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسُِف. واسم العذراء مريم….. فقال لها الملاك: (لا تخافى يا مريم، لأنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً، وابن العلى يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه، ويملِك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية)».
مدة صوم الميلاد
وتمتد مدة صوم الميلاد إلى 43 يوماً، 40 يوماً كمثال صوم موسى النبى لاستلام الشريعة الإلهية على جبل سيناء، والثلاثة أيام الأخرى أضيفت تَذكاراً لمعجزة نقل «الجبل المقطم» بعد أن صام الأب البطريرك «أبرآم بن زرعة» (البابا الثانى والستون فى بطاركة الأقباط) ثلاثة أيام.
مفهوم الصوم
الصوم تدريب للجسد
الصَّوم، ليس كما يعتقد البعض أنه تعذيب للجسد، إنما هو ضبط لإرادة الإنسان من جهة الطعام، وبوجه خاص الأطعمة التى تتحرك إليها شهوته. إن الطبيعة الإنسانية مكونة من ثلاثة عناصر أساسية هى: الجسد، والنفس، والروح. فإذا تغلبت الأمور الجسدية على تصرفات الإنسان أصبح جسدانياً، أمّا إذا استطاع أن يتخطى متطلبات الجسد ويُنمى الروح صار إنساناً روحانياً. والصَّوم يساعد الإنسان على تدريب إرادته من خلال امتناعه عن الطعام والشراب فترة زمنية، ثم تناوله أطعمة لا يشتهيها، وبذلك أمكنه أن يرتفع فوق مطالب الجسد والماديات ليُعطى اهتماماً أكبر للروح. وهذا يجعل الصوم إحدى الوسائل الروحية التى يستعد بها الإنسان ويتدرب للسُّمو بالجسد إلى مستوى روحى أعمق تنمو فيه علاقته بالله. يقول أحد الآباء: «الصَّوم يؤهل النفس للانتعاش الروحى، والاتصال بالله، وامتلاء القلب بحب الله».
الصوم يُعطى قوة
الصوم أيضاً يُعطى النفس والروح قوة، فنجاح الإنسان فى استغنائه عن أمر يشتهيه، مثل الطعام، يساعده ويقويه فى تقديم مزيد على المستويَين الروحى والنفسى. فالنفس التى تستطيع التحكم فى طعامها وشرابها والاستغناء عن الطعام الشهى بالنسبة إليها، هى بلا شك قادرة على التنازل عن: خطيةٍ محببة إليها، وأموال تُقدمها إلى المحتاجين، ووقت وجهد لمساعدة الآخرين. لذا فالصَّوم هو التدريب الأول الذى به ينطلق الإنسان بقوة إلى مزيد من أعمال الصلاح والخير نحو جميع الناس.
الصوم يُعطى إحساساً بالآخرين
والإنسان الذى يمارس الصوم يشعر بإحساس الجوع والعطش فى فترة صومه ما يجعله يختبر مشاعر الاحتياج الشديد، وحينئذ يستطيع أن يدرك حقيقة ما يمر بالفقراء والمحتاجين من مشاعر مؤلمة، فترى مثل هذا الإنسان يُسارع بتقديم العَون إلى كل محتاج يلتقيه. أتذكر قصة قرأتُها عن إنسان غنى جداً كان يدرب نفسه على الإحساس بمشاعر المحتاجين والفقراء، فكان يرتدى الملابس المُهلهلة، ويقف فى الشارع تحت الأمطار عدة ساعات. وحين سُئل عن تصرفه هذا، قال إنه يصنع ما يجعله يشعر بمدى معاناة المتألمين والمحتاجين، فيقدم إليهم كل ما أمكنه لتخفيف مُقاساتهم.
الصَّوم والبعد عن الشر
إن الصَّوم لا يهدُف إلى امتناع الإنسان عن الطعام فقط، وإنما هو يقوِّى إرادة الإنسان ويَحثه على الابتعاد عن الشر من: نميمة، أو كراهية، أو حقد، أو عادات شريرة… إلخ. وبدون أن يصل الإنسان إلى تحقيق هذا، لا يكون قد استفاد شيئاً فى صومه. يقول أحد الآباء: «الذى يصوم عن الغذاء، ولا يصوم قلبه عن الحَنَق والحقد، ولسانه ينطق بالأباطيل، فصَومه باطل، لأن صَوم اللسان خير من صَوم الفم، وصَوم القلب خير من الاثنين». ويقول أب آخر: «إن الصَّوم الحقيقى هو سَجن الرذائل أى ضبط اللسان وإمساك الغضب وقهر الشهوات». وهذا لا يعنى أن يتوقف الإنسان عن الصَّوم أو يهمله إذ لا يستطيع التوقف عن فعل خطيئة ما، بل إن هذا أدعى لأن يَزيد من صَومه وصلواته لكى يستطيع التغلب على تلك الخطيئة.
الصوم والصلاة
والصَّوم تصحبه ممارسات أخرى من أهمها: الصلاة، والقراءة فى كلام الله، ومطالعة سِير القديسين للاقتداء بهم، والنُّسك، والتأمل، مع تقديم أعمال الخير إلى كل إنسان، فإنها الغذاء الذى تقدمه إلى الروح لتتقوى فى فترة الصوم. ومن أجمل الكلمات التى قيلت فى هذا: «دائماً الصَّوم يقترن بالصلاة، وهذا يعنى أن الصَّوم دون صلاة هو كَبت وحرمان، ولكن بالصلاة يتحول إلى انطلاق روحى للنفس». لذلك، اِقرِن صومك بالصلاة فترتفع بك إلى الدخول فى حضرة الله، وتمتلئ حياتك بالبركات والقوة التى تستطيع بها أن تغير النقائص التى فيك من نحو الله والناس.
الصَّوم والاتضاع
يقول أحد الآباء: «الصَّوم يجعل الجسد يتضع»، فبه يُدرك الإنسان ضعفه وحاجاته ما يجعله يبتعد عن الكبرياء والاعتداد بالذات. وفى تواضعه يطلب معونة الله، ويمتلئ قلبه بالرحمة نحو الآخرين، فلا يَدين أحداً فى ضعفه أو عدم مقدرته، بل يُدرِك أن الجميع بشر يحتاجون إلى معونة الله قبل كل شىء، وإلى أن يشددوا بعضهم بعضاً.
الصَّوم والمحبة
وفى الصَّوم تعبير عن محبة الإنسان تجاه الله، إذ يقدم وصية الله على إرادته وراحته مُعلناً بذلك حبه لله. فالصوم الذى يبدأ بالامتناع عن الطعام والشراب، ثم يتطور إلى الانقطاع عن كل شر يرفضه الله، وبأعمال خير لكل محتاج، هو بلا شك تعبير حقيقى عن محبة حَقَّة من الإنسان نحو ربه. لهذا، ليكُن لك صوم تتدرب فيه على محبة الله، وفى الوقت نفسه، تتمرن على محبة الآخرين من خلال الشعور بحاجاتهم وتقديم يد العَون إليهم، لا المادية فقط، ولكن المعنوية كذلك، فكلمات التشجيع اللطيفة الرقيقة التى تقدمها إلى إنسان تجتاحه مشاعر الإحباط هى يد تمتد لمعونته، والوقت الذى تقدمه لمساعدة إنسان هو يد تسنُده، والنصيحة الأمينة الخالصة التى يحتاجها إنسان تقدمها إليه هى يد تَعضُده.
الصوم وفائدته للجسد
وقد يتذرع البعض فى عدم صَومه بأنه يؤثر سلباً فى الجسد. ولكن هذا يُعد غير صحيح بالمرة، فالصَّوم يساعد أجهزة كثيرة فى الجسم على العمل بكفاءة عالية. بل إننا نرى العالم المتقدم الآن يحذر من الإكثار فى الطعام أو الإفراط فى الأطعمة الدسمة التى تؤذى الجسم وتسبب أمراضاً كثيرة.
قصة
ذُكر عن أحد الرهبان الناسكين أنه كان يستطيع الصوم إلى 21 يوماً!! وفى أحد الأيام، شاهد هو أحد الرهبان المبتدئين فى حالة من الإرهاق الشديد بعد أن صام يوماً واحداً. فتعجب الراهب من عدم قدرة زميله الراهب المبتدئ. فظهر ملاك وأخبره أنه قد أُعطِى نعمة ليستطيع الصوم مدة الـواحد والعشرين يوماً، فى حين أُعطيَت نعمة لأخيه أن يصوم مدة يوم واحد، فلا يظن أن انقطاعه عن الطعام والشراب هو بقدرته بل هى نعمة من عند الله تسنُده.
وفى مِصر، هذا البلد الذى يعرف التشارك والمحبة بين أفراد شعبه، دائماً ما تتميز المناسبات! حفِظ الله المِصريين جميعاً من كل سوء، وحمى مِصر وصانها من كل شر.
و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!