No Result
View All Result
تحدثنا فى مقالات سابقة عن حكم الإمبراطور «موريس» للإمبراطورية الرومانية الشرقية «البيزنطية»، وعن حربه ضد الفرس، وضد قبائل «السلاف» و«الآڤار»، والثورة المِصرية التى قامت فى البلاد مع السنوات الأولى من بَدء حكمه. كذٰلك قام ينظم فى الغرب المناطق التابعة لسيطرة الإمبراطورية، وأقام عليها الحكام العسكريِّين. وبحسب المؤرخين نظَّم الإمبراطورية الرومانية على مثال تلك التى كانت فى العصور الوسطى. وقد أدت الحملات العسكرية الكثيرة إلى فقد ثرواتها، ورفع الضرائب، ما أدى إلى تفشى الغضب بين الجنود وأفراد الشعب ليُطيحوا بالإمبراطور فى ثورة قادها «فوكاس» ليصبح حاكمًا للبلاد. وقد قوبل حكمه باحتفاء شديد إذ شرع يخفض الضرائب الباهظة التى كانت فى عصر سابقه وهو الأمر الذى زاد من شعبيته. إلا أن عصره شهِد أيضًا بَدء انهيار الحدود التقليدية للإمبراطورية البيزنطية، فقد مهد نزوح الجيش من نهر الدانوب، فى عام 605م، الطريق إلى هجمات جديدة أدت إلى انتهاء الوجود البيزنطىّ فى البَلقان.
الإمبراطور هرقل (610-641م)
كان «هرقل» هو الابن البكر للوالى «هرقل الأكبر»، الذى عمِل ضابطًا فى الجيش الرومانىّ، وساعد الإمبراطور موريس فى حروبه، وقد عُين نائبًا إمبراطوريًّا على أفريقيا، وعاصر اعتلاء «فوكاس» العرش. وما إن علِم ملك الفرس بقتل صديقه «موريس» حتى بدأ فى التحرك للثأر من «فوكاس».
وفى عام 608م، ثار «هرقل الأكبر»ـ والد الإمبراطور «هرقل» النائب الإمبراطورىّ على أفريقياـ على الإمبراطور «فوكاس»، فأرسل ابن عمه «نيكيتاس» إلى مِصر ليتملك عليها ويحكمها فى عام 609م، فى حين أرسل ابنه الأكبر «هرقل» إلى القسطنطينية للإطاحة بالإمبراطور «فوكاس» الذى قُتل، فصار «هرقل» الابن إمبراطورًا فى عام 610م.
العَلاقة بالفرس
كانت الحرب ضد الفرس لاتزال جارية إذ تقدمت جيوشهم للإغارة على الشام وقد قاموا يحرقون أنطاكية، ودمشق التى نُهبت فى عام 613م بعد أن قتلوا عددًا كبيرًا من سكانها. ثم اتجهوا نحو القدس ودخلوها فى عام 614م، وأيضًا بيت المقدس حيث خرَّبوا كنيسة القيامة وسلبوا «الصليب المقدس»، وقتلوا جموعًا غفيرةً من أهلها. ثم أُرسلت الجيوش إلى الإسكندرية فى عام 617م حتى يسيطروا على مِصر. ثم عقد ملك الفرس صلحًا مع مِصر نظير دفع الأموال له بدلًا من الدولة الرومانية. ويذكر أحد المؤرخين أن ملك الفرس كان يسعى جاهدًا لتحويل المَسيحيِّين إلى عبادة النار أو محوهم من هٰذه البلاد.
ثم هاجم ملك الفرس بلاد الأناضول وأبرم مع قبائل التتار اتفاقًا بشأن شن غارات على الروم؛ وقد بدؤوا غاراتهم إلى أن وصلوا بالقرب من أسوار القسطنطينية. وكان الإمبراطور «هرقل»، بعد توليه حكم الإمبراطورية، قد طلب السلام وعقد صلحا مع ملك الفرس، إلا أن الثانى أبَى ووجَّه جيوشه- كما ذكرناـ إلى سوريا والقدس، غير أن جيش هرقل كُسر وهُزم فى تلك المعركة. ونتيجة الهزائم التى تعرضت لها الدولة الرومانية البيزنطية ووصول الأعداء إلى القسطنطينية، دب اليأس فى قلب «هرقل» من تحقيق الانتصار واستعادة ما فقده من بلاده. وحاول نقل العاصمة إلى قرطاچ، إلا أن بطريرك القسطنطينية لم يوافقه الرأى، ومنعه من التخلى عن المملكة، وشجعه على الوقوف ضد أعداء الإمبراطورية؛ وكذٰلك قدم إليه كل المساعدات التى تستطيع الكنيسة التبرع بها له. فقرر «هرقل» أن يبدأ فى محاولات عقد صلح تدفع فيه الإمبراطورية الأموال للفرس؛ وفى أثناء هٰذا، كان يقوِّى جيوشه ويعيد بناءها لمقاومة الأعداء، وكذٰلك أخذ يُصلح فى المجال الزراعىّ إصلاحات كثيرة كانت الكنيسة قد ساهمت فيها بدرجة كبيرة.
وفى عام 622م، بدأ «هرقل» حربه ضد الفرس، بعد أن غادر الإمبراطورية تاركًا إياها تحت إدارة البطريرك ووصاية ابنه. وفى تلك الحرب، تقوَّى «هرقل» على الفرس وانتصر؛ ويُذكر فى هٰذا ما كتبه أحد المؤرخين أن الإمبراطور «هرقل» انتصر على الفرس فى الموضع الذى انتصر فيه الإسكندر على «دارا» أو «داريوس» الفارسىّ. ثم وجَّه جيوشه نحو التتار المعاهدين للفرس، واستطاع أن يبددهم بالقرب من القسطنطينية. وبعد تلك الأحداث، قُتل ملك الفرس بتدبيرات ابنه الذى تولى المُلك من بعده؛ فقتل جميع إخوته، وعقد الصلح بين الفرس والروم بالشروط التى وضعها «هرقل»، التى تمثلت فى: عودة حدود كلتا الدولتين إلى حدود ما قبل الحرب الفارسية الرومانية الأولى، إضافة إلى تحرير وإطلاق سراح جميع الأسرى، وإعادة خشبة الصليب إلى الدولة الرومانية البيزنطية كسابق عهدها فى القدس، فنقل الصليب فى موكب احتفالى إلى موضعه بالقدس عام 630م.
ويَقُص لنا المؤرخون، أنه فى أثناء حروب الفرس أيضًا، ثار يهود مدينة صُور ضد المَسيحيِّين، وتواعدوا على قتلهم، فكانت حربٌ ضاريةٌ هدَّموا فيها الكنائس خارج صُور، ولٰكن المَسيحيِّين انتصروا عليهم. وكان «هرقل» آنذاك قد خرج لتفقد بلاد الشام ومِصر ليجدد ما خرَّبه الفرس حيث وجد بيت المقدس والكنائس خَرِبةً خرابًا تامًا وهو الأمر الذى ساءه كثيرًا؛ كذٰلك فإنه علِم بثورة اليهود فى أثناء الحروب ضد الفرس وبأعمالهم المشينة ضد المَسيحيِّين؛ فأخذ يعمر تلك الكنائس.
وبعد الهدوء الذى اجتاح الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، جراء انتهاء الحروب ضد فارس، أولى «هرقل» اهتمامًا كبيرًا بإصلاح ما أفسده الفرس، وبمناقشة الخلافات العقائدية المَسيحية التى كانت تسبب نزاعًا كبيرًا إذ عمِل على جمع علماء الكنائس وعقد اللقاءات بينهم. وقد مات «هرقل» فى عام 641م ليكون آخر ملوك الدولة الرومانية فى حكم مِصر قبل الفتح العربىّ الإسلامىّ لها.
أحوال مِصر فى أثناء دخول الفرس إليها
كان فى تلك الأثناء، يجلس على كرسىّ الكرازة المَرقسية البابا أنبا «أندرونيقوس» السابع والثلاثون فى بطاركة الإسكندرية. فبعد أن اتفق الرأى على اختياره بطريركًا، ظل فى الإسكندرية طوال أيام رئاسته، غير مهتم بسطوة الملكيِّين. وقد عاصر البابا «أندرونيقوس» غزو الفرس لبلاد الشرق ونهر الفرات، واستيلاءهم على حلب وأنطاكية وأورُشليم وغيرها، وتعرض عدد كبير من المَسيحيِّين للقتل والأسر، وتخريب ما يقرب من سِت مائة دير كانت عامرة بالرهبان الذين قُتلوا بعد أن نهبوها وهدَّموها!! كذٰلك قتل الفرس ثمانين ألف رجل عند دخولهم الإسكندرية!! وحينما توجهت جيوش الفرس إلى صَعيد مِصر، مرت فى طريقها بمدينة «نقيوس»، فأمر قائدهم بقتل الرهبان الذين يسكنون فى المغائر حولها، الذين كان يبلغ عددهم سَبع مائة راهب!! وهٰكذا ظلت جيوش الفرس تعمل على القتل والتخريب فى أرض مِصر إلى أن انتصر عليهم الإمبراطور «هرقل» وطردهم من الديار المِصرية.
مِصر تحت حكم الرومان
لم تنَل مِصر نصيبًا من الراحة فى أثناء حكم الرومان على البلاد. كذٰلك لم يكن هناك اهتمام من جانب الدولة الرومانية بإعمار مِصر وتطورها إلا فى أوقات قليلة جدًّا لم تُتَح فيها أن تتقدم بدرجة ملحوظة، كما لم تُتَح لها فرصة استعادة أمجادها وماضيها فى ريادة الشعوب كما كانت عبر التاريخ إذ توالت المصائب والصراعات فى عدم استقرار للأحوال.
وقد حافظت مِصر على كِيانها ولغتها القديمة مع أنها فى تبعية للدولة الرومانية، ولٰكنها أهملت الكتابة بها فكتبت باليونانية؛ فقد ذكر أحد الكتاب: «وكانت فى جميع هٰذه المدة محافظة على لغتها القديمة لا تتكلم إلا بها، ولٰكنها أهملت طريقة الكتابة بالقلم البربائىّ واستعاضت عنه بالكتابة اليونانية على الطريقة المستعملة بمدينة الإسكندرية؛ فكانت لغتها قبطية قديمة، وطريقة كتابتها يونانية».
وقد عمت الفتن مِصر تأثرًا بما يحدث فى الإمبراطورية الرومانية. وأريقت الدماء الكثيرة فى كل البلاد، وخاصة فى الإسكندرية. كذٰلك ازدادت الفتن جدًّا بين اليهود والمَسيحيِّين، ما عرض البلاد إلى أخطار وحروب وانشقاقات. وفى القرن الأخير من الحكم الرومانىّ على مِصر، زادت المصائب والأهوال فيها مع أن جهودًا كثيرة كانت قد بُذلت من جانب بعض الحكام لمقاومة تلك الفتن والانقسامات التى كانت تستخدم الدين من أجل النزاع والتقاتل! ويذكر أحد الكتاب: «وقد اجتمعت كلمة أصحاب التاريخ على أنه لم يدِبّ عرق هٰذا الفساد فى ديار مِصر إلا بعد أن فتحها ملوك القسطنطينية عندما كثر فيها الخلل، وعمت القلاقل، وفشا (ظهر وانتشر) فيها الانهماك على الكبائر من الأعيان والأكابر، والعربدة من الجنود والأصاغر؛ ولم يكُن لديها باعث آخر لإثارة نار هٰذه الفتن غير ما أوجبه الدين…».
و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ
No Result
View All Result