هروب العائلة المقدسة إلى مِصر رحلة امتاز بها وطننا عن أية دولة أخرى، وبركة لم ينَلها أي بلد آخر؛فبتلك الرحلة صارت مِصر وطنًا ثانيًا عاش فيه السيد المسيح.ويُعد مجيء السيدة العذراء حاملةًالسيد المسيح طفلاًبصحبة البار”يوسف النجار” والبارة “سالومي”من أهم الأحداث التي سطرها التاريخ المِصري على صفحاته.
مِصر بلد البركات
منذ فجر التاريخ الإنسانيّ ومِصر تحتل مكانة خاصة جدًّا؛ فهي بلد البركات إذ كانت الملجأ لأنبياء الله: فلجأ إليها خليل الله إبراهيم، وجاءها نبيّ الله يعقوبوبنوه، وعاش فيها يوسف الصِدِّيق وصار الرجل الثاني بعد فرعونها. وفي مِصر وُلد كليم الله موسى النبيّ وتهذب بكل حكمة شعبها، ومن نسائهااتخذأحكم ملوك الأرض سُلَيمان النبيّ زوجةً هي ابنة فرعون. ومِصر البلد الوحيد الذي استقبل السيد المسيح وأمه القديسة مريم العذراء،فعاشا بين رُبوعها في مدنها وقراها مع يوسف النجار. وهٰكذا بات هروب العائلة المقدسة إلى مِصرحدثًا تاريخيًّا شهِدته أرضها، ودونته صفحات التاريخ الإنسانيّ،لتصير بلد البركات، تحقيقًا للنبوءة: “مباركٌ شعبي مِصر”؛ فدائمًا مِصر بشعبها علامة فارقة في التاريخ والحضارات والأديان؛ إنها وطن الخير والبركة والمحبة والسلام والأمان.
نبوات
ولم يكُن هروب العائلة المقدسة إلى أرض مِصر غريبًا أو مفاجئًا؛ فقد أشار عدد من أنبياء العهد القديم في نبواتهم المذكورة بالكتاب المقدس إلى هٰذه الرحلة؛ فنقرأ نبوءة إشَعْياء النبيّ: “.. هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مِصر، فترتجف أوثان مِصر من وجهه ويذوب قلب مِصر داخلها.” (إِشَعْياء 19: 1)، وذكر هوشع النبيّ: “من مِصر دعوتُ ابني” (هوشع 11: 1). بل إن إشَعْياء النبيّ حدد أنه ستكون كنيسة في وسَط أرض مِصر فيقول: “.. يكون مذبحٌ للرب في وسَط أرض مِصر، وعمودٌ للرب عند تُخْمها. فيكون علامةً وشهادةً لرب الجنود في أرض مِصر.” (إِشَعْياء 19: 19-20). وقد تحققت هٰذه النبوءة في كنيسة السيدة العذراء مريم الأثرية بدير المُحَرَّق بأسيوط، التي بالفعل تتوسط أرض مِصر؛ ومن المعروف أن ذٰلك المكان عاشت فيه العائلة المقدسة ما يزيد على ستة أشهر كاملة، وسطحه هو الحجر الذي كان ينام عليه السيد المسيح وهو طفل. أمٌا العمود الذي عند تُخْم مِصر، فهو كرسيّ مار مرقس الرسول كاروز الديار المِصرية، في الإسكندرية حيث أسس كنيستها الرسولية.
هروب
بدأت رحلة العائلة المقدسة حين أرسل الله ملاكًا إلى البارّ يوسف النجار في حُلم، وحذره من سعي الملك هِيرودُس لقتل الطفل المولود، بعد لقائه المجوس سرًّا وطلبه منهم أن يُخبروه بمكانه، يقول له: “«قُم وخُذ الصبيّ وأمه واهرُب إلى مِصر وكُن هناك حتى أقول لك. لأن هِيرودُس مزمِع أن يطلب الصبيّ ليهلكه».” (مت13:2)؛ فلم يتوانَ يوسف النجار بل أسرع مصطحبًا الصبيّ وأمه هاربًا إلى أرض مِصر ليلاً. وقد أجمعت جميع التقاليد الشرقية والغربية على أن السيدة العذراء ركبت حمارًا، وهي تحمل على ذراعيها الطفل يسوع، وسار بها يوسف النجار إلى جانب الحمار ممسكًا بمقوده حسب العادات المتبعة في الشرق.
طريق وعر
لم يكُن مسار العائلة المقدسة سهلاً بل كان طويلاً شاقًا مليئًا بآلام وأتعاب ومشاق، لقد سارت في صحارٍ وهضاب ووديان، في مواجهة أخطار عديدة من وحوش ضارية ولصوص وقُطاع طرق وشمس محرقة وبرد قارس وتقلبات مُناخية،وخطرنفاد الطعام والمياه. عائلة صغيرة تواجه أخطار السفر وأخطار جنود الملك ـفي وقت كانت الرحلات قديمًا تقام في جماعات طلبًا لحماية أفرادها بعضهم بعضًا؛كلها مخاطر تضعف الأمل في نجاة تلك العائلة. إضافة إلى مخاطر عبور نهر النيل بفروعه السبعة آنذاك. ويُذكر أن العائلة المقدسة لم تسلك أحد الطرق الثلاثة المعروفة للقوافل التِجارية ورِحلات السفر آنذاك؛ هربًا من شر “هِيرودُس” الذي أرسل جواسيسه لاقتفاء أثرها والقبض على الصبيّ ليُهلكه. فما إن وصل خبر هروب العائلة المقدسة إلى “هِيرودُس” حتى أسرع بإرسال جواسيسه وراءها، قيل إنهم عشَرة جنود، آمرًا إياهم بالبحث عن الصبيّ وإحضاره حيًّا ليقتُله بنفسه! لٰكنهم لم يستطيعوا الوصول إليه. ولهٰذا اتخذت العائلة المقدسة طريقًا آخر غير الطرق المعروفة آنذاك، وهي تجوب “مِصر” شَمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا هربًا من جواسيس الملك.
مسار الهروب
“الفَرَما”
بدأت رحلت العائلة المقدسة من بيت لحم بفلسطين إلى غزة، حتى “محمية الزرانيق” (“الفِلوسيات”) غرب العريش بـسبعة وثلاثين كيلومترًا؛ لتدخل أرض مِصر عن طريق سيناء من جهة الشمال من “الفَرَما” التي تقع بين مدينتي العريش وبورسعيد؛لتكون “الفَرَما” باب الدخول إلى “مِصر”. وقد ذكر الراهب برناردفي كتابه، أنه في عام ٨٧٠م، رأى في “الفَرَما” كنيسة مكرَّسة باسم القديسة “مريم” تَذكارًا لمرور العائلة بها. وقد أقامت العائلة المقدسة بضعة أيام في “الفَرَما”، ثم تحركت نحو شرق الدلتا.
“تل بسطا”
وصلت العائلة إلى “تل بسطا” قرب مدينة “الزقازيق” بمحافظة “الشرقية” ظُهرًا فاستظلت تحت شجرة؛ وفي تلك الأثناء عطِش الصبي يسوع، فسألت السيدة “العذراء مريم” أهل المدينة بعض الماء فرفضوا! فأنبع لها الصبيّ نبع ماء وباركه. وقد تحطمت الأوثان عندما دخل الصبيّ المدينة: وذٰلك أنه في أثناء وجود العائلة المقدسة في “تل بسطا”، مر بها شخص يُدعى “قلوم” ودعاها إلى منزله، وأكرم ضيافتها، فبارك الصبيّ يسوع منزله؛ وحدث أمر عجيب، إذ عند وصول العائلة المقدسة لمنزل “قلوم”، تأسف الرجل للسيدة العذراء مريم لأن زوجته مريضة ملازمة الفراش منذ ثلاث سنوات، وأنها لا تستطيع الترحيب بها وبعائلتها، فقال الصبيّ يسوع لـ “قلوم”: “الآن، امراتك «سارة» لن تكون بعدُ مريضة” ! وفي الحال ، قامت سارة متجهة ناحية الباب مرحبةً بالصبيّ وبأمه القديسة السيدة العذراء وبالقديس يوسف النجار وبالقديسة سالومي، وسألتهم البقاء معهم مدة أطول، إذ وجود الصبيّيه ببركة لمنزلها!! إلا أن وجود السيدة العذراء ومعها طفلها تسبب في سقوط التماثيل الجرانيت الضخمة للآلهة!! وانتشر الحادث في كل أنحاء البلدة حتى وصل الأمر إلى الحاكم الذي بدأ التحقيقات؛ فعلِم أن السبب هو وجود سيدة تحمل طفلاً صغيرًا، وأنه في الأغلب الطفل المقدس الذي يبحث عنه هِيرودُس. فصدرت الأوامر بالبحث عن الصبيّ في كل مكان بالمدينة. وسمِع “قلوم” بكل الترتيبات والخطوات التي اتخذتها السلطات للقبض على الصبيّ الذي كان سبب بركة وشفاء لزوجته؛ لذٰلك أسرع إلى العائلة المقدسة، ناصحًا إياها بالهرب من المدينة ليلاً.
“مسطرد” (“المَحَمّة”)
توجهت العائلة ناحية الجنوب إلى “مسطرد” وأقامت في مغارة بها؛ وقد أنبع الصبيّ فيها نبع ماء مايزال حتى اليوم، حيث اغتسل بمائه وتحمَّم لذٰلك يُدعى المكان بـ “المَحَمَّة”، وكان ماء النبع يشفي كل من يستعمله. ثم بُنيت كنيسة فيما بعد على اسم السيدة العذراء بـ”مسطرد”.
بلبيس
من “مسطرد” اتجهت العائلة شمالاً نحو الشرق إلى “بلبيس” بمحافظة “الشرقية”، وقد رحب أهل “بلبيس” بالعائلة المقدسة وأكرموا ضيافتها ـ وقيل إنها أول بلد يرحب بها، وهناك استظلت بشجرة سُميت فيما بعد “شجرة العذراء مريم”.وتذْكر إحدى القِصص عن هٰذه الشجرة أن عساكر “نابُليون” عندما مروا بـ”بلبيس” أرادوا إعداد طعامهم، فأمسكوا الفأس لاقتطاع بعض الخشب من تلك الشجرة، لٰكن فزعًا شديدًا قد انتابهم مع أول ضربة فأس في الشجرة؛ إذ بدأت تُدمي!! فارتعبوا جدًّا ولم يستطيعوا مساسها.
منية جناح (منية سمنود) (دقادوس)
ومن “بلبيس” ارتحلت العائلة المقدسة شمالاً مرورًا بالزقازيق الحالية، ثم واصلت المسار إلى “منية سمنود” (منية جناح)، مرورًا ببلدة “دقادوس” الحالية حيث كنيسة القديسة السيدة العذراء مريم، وبها بئر شربت منها العائلة المقدسة.
سمنود
عبرت العائلة المقدسة نيل مِصر إلى مدينة “سمنود” داخلا لدلتا شمال شرق محافظة الغربية على ضفاف فرع دِمياط، حيث استُقبلت العائلة المقدسة استقبالاً حافلاً؛ فطلبت السيدة العذراء من ابنها أن يبارك المدينة وأهلها، فأجابها أن كنيسة على اسمها سوف تُبنى فيها، وهو ما حدث. وقيل إن “السيدة العذراء” في تلك المدينة عجنت في ماجور كبير من الجرانيتموجود حتى الآن، وتوجد أيضًا بئر ماء باركها الطفل يسوع بنفسه.
“سخا”
من مدينة “سمنود” رحلت العائلة المقدسة إلى منطقة “البرلس” شمال الدلتا، نحو قرية تسمى شجرة التين، ثم قرية المطلع (أو الضلع) حيث استضافها رجل من أهل القرية، وتنبأ الصبي يسوع عن بناء كنيسة فيها، وبالفعل كان ذٰلك. وفي الطريق من “سمنود” إلى “سخا” مرت العائلة المقدسة بعدد كبير من البلاد التابعة لمحافظتي الغربية وكفر الشيخ، وعبرت في طريقها على براري بلقاس.
وصلت العائلة المقدسة إلى مدينة “سخا” بمحافظة “كفر الشيخ”، التي تُعد إحدى المحطات المهمة في رحلتها إذ ما يزال بها حجر هو قاعدة لعمود، طُبعت عليه آثار قَدمي الصبيّ يسوع بعد أن أوقفته “السيدة العذراء” فوقه فغاصت قدماه فيه وانطبع أثرهما عليه؛ لذٰلك عُرفت المنطقة باسم “بيخا إيسوس” أيْ “كعب يسوع”! وقد أُخفي الحجر زمنًا طويلاً خوفًا من سرقته إلى أن اكتُشف في 27/9/1984م عند ترميم المذبح. كذٰلك أنبع الصبيّ ماءً ارتوت منه العائلة المقدسة.
“مريوط”
باركت “العائلة المقدسة” منطقة “مريوط” في أثناء انتقالها من مدينة “سخا” إلى “وادي النطرون”؛ ويذكر لنا “القمص رافائيل آڤا مينا”، في بحث مُشوِّق، أنه لم يكُن طريق مباشر بين مدينة “سخا” و”وادي النطرون”، بل كانت صحارٍ واسعة وبحيرات؛ فاتبعت العائلة المقدسة طريقًا قديمًا عابرًا أحد فروع النيل (السبعة آنذاك)؛ وكان ذٰلك الفرع يصب في “بحيرة مريوط” حيث وصلت العائلة المقدسة إلى ميناء ما تزال آثاره حتى اليوم؛ ومن هٰذا الميناء انتقلت إلى مدينة “ماريا” التي تُطل على البحيرة، ثم إلى مدينة “مريوط الأثرية” التي تسمى “مدينة بومينا” ـ أي “مدينة مار مينا” حيث دُفن “الشهيد مار مينا العجائبيّ” ـ والتي كانت ملتقى الطرق القديمة من الجنوب إلى شَمال الوادي. وكان طريق مشهور حتى وقت قريب للمسافرين يربِط بين “وادي النطرون” و”منطقة مار مينا الأثرية”، يسلكه رهبان “وادي النطرون” عند زيارتهم لتلك المنطقة: “كان أنبا ثاؤفيلس رئيس دير السريان يسير في هٰذا الطريق من وادي النطرون إلى «منطقة مار مينا» عبورًابالصحراء، في طريق معروف لكل سكان الصحراء، يبلغ طوله سبعين كيلومترًا تقريبًا (وهو غير الطريق الصحراويّ الحاليّ الذي تبلغ فيه المسافة بين «وادي النطرون» ومنطقة «بومينا» مئةً وعشرين كيلومترًا تقريبًا)؛ وظل هٰذا الطريق معروفًا للرهبان، وكانت سيارات سلاح حرس الحدود تسير فيه بكل أمان، إلى أن عمَرت الصحراء، وأُنشئت الترع والمصارف، فأُلغي هٰذا الطريق الذي كان يمر به كل من يريد أن يعبر إلى الشَّمال نحو ليبيا”. وبذٰلك تكون العائلة المقدسة قد انتقلت من “سخا” إلى “بحيرة مريوط” ومنها إلى مدينة “بومينا الأثرية”، ثم إلى “وادي النطرون” مرورًا بذٰلك الطريق القديم؛إذ إنه لم يكُن طريق ممهد أو معروف آنذاكيمر بالصحراء للذَّهاب إلى “وادي النطرون”.
“وادي النطرون”
واصلت العائلة المقدسة رحلتها وعبرت مرة أخرى نهر النيل (فرع رشيد) إلى غرب “الدلتا”، ثم تحركت جنوبًا إلى “وادي النطرون” (“الإسقيط”)، مارةً بـ”نبع الحمرا” العذب الذي كان قد أنبعه الطفل يسوع، وأُطلق عليه اسم “بئر مريم”، وهو يقع وسْط البحيرات الممتلئة بمِلح النطرون. وقد كان ذٰلك الوادي صحراء جرداء آنذاك، إلا أن “السيد المسيح” باركه وتنبأ عن ذٰلك الوادي أنه سوف يمتلئ بالمتعبدين لله من رهبان ونساك ومتوحدين، ويكون مبارًكًا فتأتي إليه الناس من كل صوب وحدب لتتبارك منه؛ وبالفعل تمت النبوءة ودُعي اسمه “برّية شِيهِيت” أي “ميزان القلوب”.
“المطرية” و”عين شمس”
اتجهت العائلة المقدسة جنوبًا، وعبرت نهر النيل إلى الناحية الشرقية صوب منطقة “المطرية وعين شمس”؛ وتُعد منطقة “المطرية”إحدى أهم المناطق التي مرت بها العائلة المقدسة، حيث استظلت بشجرة جميز عُرفت فيما بعد باسم “شجرة مريم”. وقد أنبع الطفل يسوع نبع ماء غسلت فيه السيدة العذراء ملابسه، وصبت الماء على الأرض فأُنبت “البلسان”. وبالمنطقة كنيسة على اسم القديسة السيدة العذراء، على بعد أمتار قليلة من “شجرة مريم”. وعندما دخلت العائلة المقدسة إلى مدينة “أون” (“عين شمس” حاليًّا) سقطت أوثانها وتحطمت.
“الزيتون”
اتجهت العائلة المقدسة إلى منطقة مِصر القديمة، وفي الطريق استراحت العائلة فترة بمنطقة “الزيتون ووسَط البلد”، ويذكر بعض المؤرخين أن بها بئر ماء شربت منها العائلة المقدسة في حارة الروم، ثم مرت بمنطقة “العزباوية” التي كانت حقولاً وكانت بها بئر ماء، والآن بها الكنيسة المعروفة بـ”العِزباوية” وهي على اسم القديسة السيدة العذراء.
“مِصر القديمة”
وصلت العائلة المقدسة إلى منطقة “مِصر القديمة” التي هي جزء من منطقة رأس الدلتا، والتي كانت تُعرف باسم “بابليون”، وكانت تعيش بها جالية يهودية كبيرة. وقد أقامت العائلة المقدسة في مغارة تحت “كنيسة الشهيدين سَرْجيوس وواخُس” التي اشتُهرت باسم “كنيسة أبي سرجة” أو “كنيسة المغارة”، ولم تستطِع العائلة المقدسة أن تبقى فيها طويلاً بسبب واقعة تحطم الأوثان إذ أثارتوالي الفسطاط فأراد قتل الصبيّ يسوع.
“المعادي”
سارت العائلة المقدسة من “مِصر القديمة” متجهة نحو الجنوب، فوصلت “المعادي” (منف عاصمة مِصر القديمة)، جنوب القاهرة على الضفة الشرقية، حيث أقلعت في مركب شراعيّ متجهة جنوبًا نحو “الصعيد”، ويوجد في هٰذا الموقع حاليًّا “كنيسة القديسة السيدة العذراء” المعروفة بـ”العدوية”؛ لأن منها عبرت العائلة المقدسة إلى النيل في رحلتها إلى الصعيد ومنها جاء اسم “المعادي”. ويوجد بالكنيسة سُلم حجرية أثرية على النيل مباشرة يُعتقد أنها الموضع الذي ارتحلت منها العائلة المقدسة في المركب الشراعي لتتجه نحو الجنوب. وفي يوم الجمعة الموافق 12/3/1972م عُثر أمام الكنيسة على نسخة من “الكتاب المقدس” كبيرة الحجم،عائمة على سطح النيل، ومفتوحة على الصفحة التي بها الآية: “مباركٌ شعبي مِصر”، وقد وُضعت في صُندوق زجاجيّ قرب باب الكنيسة الغربي، مفتوحة على تلك الصفحة.
“دير الجَرنوس”
أقلعت العائلة المقدسة من “المعادي” في مركب شراعيّ تجاه “الصعيد”، ومرتبقرية “أشنين النصارى”، متجهةً إلىقرية”ديرالجَرنوس”شرقي مدينة البهنسا وغرب مغاغة، ويُعتقد أنها أقامت هناك أربعة أيام. ويُذكر في كتاب “فتوح الشام” أن الطفل يسوع شعر بالعطش الشديد فأخذت العذراء أصبعه ورفعته فوق البئر التي كانت مياهها عميقة جدًّا؛ فارتفعت المياه نحو سطح البئر واستطاعت العائلة المقدسة كلها أن تشرب منها. وتوجد كنيسة على اسم القديسة السيدة العذراء في “دير الجَرنوس”.
“البهنسا”
مرت العائلة المقدسة ببقعة تُسمى “بيت يسوع” شرقيّ “البهنسا” (حاليًا قرية “صَندَفا” في “بنيمزار”). و”البهنسا” التي مرت بها العائلة المقدسة تقع غرب النيل، وكانت معروفة في العصر اليونانيّ باسم “مدينة القَنُّومة” نسبة إلى نوع من الأسماك مدبب الفم يعيش في المياه القريبة منها، واعتبره أهلها دليل خير وبركة، وفيما بعد اعتبروا السمكة مع الصليب رمزًا للمدينة. وكانت المدينة تحتوي عددًا كبيرًا من الكنائس، إضافة إلى تجمعات رهبانية كبيرة؛ وقد ذكر المؤرخ بلاديوس: “أُكسيرِنخوس (البهنسا) هي المدينة التي كان عدد كنائسها أكثر من عدد بيوتها”. وقد أُشيرَ إلى شجرة عتيقة لها ارتباط بالعائلة المقدسة.
“جبل الطير”
من “البهنسا” ارتحلت العائلة المقدسة ناحية الجنوب حتى بلدة “سمالوط”، ومنها عبرت نهر النيل ناحية الشرق إلى “جبل الطِير”، حيث يقع الآن “دير السيدة العذراء بجبل الطير” الذيبه مغارة أثرية يُعتقد أن العائلة المقدسة أقامت بها ثلاثة أيام. ويُعرف هذا الجبل باسم “جبل الطير” لأن عليه تجتمع أسراب من طائر “البوقيرس”، وهو من الطيور المهاجرة، كما يُعرف باسم “جبل الكف” أو “جبل الصخرة” لأن في أثناء ارتحال العائلة المقدسة في النيل كادت صخرة كبيرة من الجبل أن تسقط عليها، فمد الصبيّ يسوع يده ومنع الصخرة من السقوط وطُبعت كفه عليها. وقد أقامت الملكة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطينكنيسة في تلك المنطقة عُرفت باسم “كنيسة الكف” أو “كنيسة الصخرة”، ومنه امتد الاسم إلى الجبل كله.
وقد ذكرت بعض المصادر أنه في الطريق مرت العائلة المقدسة على شجرة لبخ عالية (شجرة غار) كان يسكنها الشيطان ويتعبد لها الوثنيُّون، إلا أنه بمرور “السيد المسيح” عليها انحنت كأنها تسجد؛إذ جميع فروعها هابطة تجاه الأرض وأوراقُها الخضراء تعلو! ثم صار لقشر الشجرة وأوراقها وثمارها قوة شفاء للأمراض؛ فقد ذكر المؤرخ سوزومينوسـ من القرن الخامس الميلاديّ: “يُقال إنه في الأشمونين ـ وهي مدينة في صَعيد مِصر ـ شجرة تسمى «بيرسيا»، ثمرها أو ورقها أو قشرها يشفي المرضى من أمراضهم. ويروي المِصريُّون أن يوسف عندما هرب من مطاردة هِيرودُس، أتى مع المسيح (وهو طفل) ومريم أمه القديسة إلى الأشمونين، وفي اللحظة التي اقترب فيها من الباب، انحنت الشجرة إلى الأرض على الرغم من علوها، لتسجد للمخلِّص. وإن ما أقوله عن الشجرة أرويه كما سمعتُه من أشخاص كثيرين”.
“أنصنا”
سافرت العائلة المقدسة من “جبل الطير” إلىقرية”الشيخ عبادة”، “بير السحابة” ـ “أنْصِنا”، قرب الجبل الشرقي، حيث أنبع الطفل يسوع بئر ماء عذب، وقد سُميت “بير السحابة” نسبة إلى القديسة السيدة العذراء مريم السحابة السريعة القادمة إلى مِصر كما في نبوءة إشعياءالنبيّ: “وحْيٌ من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها.” (إِشَعْياء 19: 1). وعندما أرادت السيدة العذراء أن تسقي طفلها ولم تجد ماءً، بارك الطفل المكان وأنبع بئر ماء عذب. وما تزال البئر قائمة وتُنبع ماءً عذبًا علىالرغم من أن الآبار المحيطة بها ماؤها مالح!
“الأشمونين”
مرت العائلة المقدسة بـ”قرية بني حسن” جنوبًا، وعبرت نهر النيل إلى “الروضة” غربًا لتصل إلى “الأشمونين”. وعند دخول العائلة المقدسة “الأشمونين”، ارتجفت الأوثان فيها وسقطت؛ويذكر “بلاديوس” المؤرخ أسقف هيلينوبوليس ـمن القرن الرابع الميلاديّ، أنه بعد ذهابه إلى منطقة “الأشمونين”: “رأينا أيضًا هناك بيت الأوثان حيث سقطت جميع الأوثان التي فيه على وجهها عندما دخل مخلِّصنا المدينة.”. وقد أقام “السيد المسيح” بها أيامًا، وصنع معجزات وعجائب كثيرة منها شفاء مرضى وإخراج شياطين. وترتبط “الأشمونين” بالقديس وَدامون الأرمنتيّ الذي كان شابًّا من أرمنت وسمِع عن معجزات السيد المسيح بالأشمونين، فذهب إليه وقابله هناك؛ وباركه السيد المسيح وتنبأ له بالاستشهاد؛ وبالفعل لما عاد وَدامون إلى أرمنت اغتاظ منه كهنة الأوثان وقتلوه.
“ديروط أم نخلة”
وصلت العائلة المقدسة إلى “ديروط أم نخلة” في الجنوب (وهي قرية تابعة لمركز “ملوي” بمحافظة “المنيا”)؛ وقد ذُكرأن التسمية ترجِع إلى أن نخيل المنطقة وشجرها قد انحنى إجلالاً للطفل يسوع عند عبوره بها، ويُذكر أنه أنبع عين ماء عذب هناك.
“دير أبو حَنِّس”
فـي الطريق إلى “ملوي” استراحت العائلة المقدسة يومًا واحدًا،على كوم في “دير أبو حَنِّس” على شاطئ النيل الشرقي. وفي الجهة الجنوبية من الدير يقع “كوم ماريا”، وهو كوم أثريّ كبير على اسم القديسة السيدة العذراء، استراحت عليه العائلة المقدسة أثناء رحلتها. ثم واصلت العائلة المقدسة المسير إلى تل العمارنة.
“ديروط الشريف”
وارتحلت العائلة المقدسة جنوبًا من “تل العمارنة” إلى ناحية “ديروط الشريف” (وهي تتبع مركز ديروط بأسيوط)، حيث أقامت العائلة المقدسة بضعة أيام، وصنع فيها الصبيّ يسوع معجزات عديدة، وبها كنيسة على اسم القديسة السيدة العذراء.
“قُسقام”(“القوصية”)
وصلت العائلة المقدسة “قرية قُسقام” (قوست ـ قوصيا) شمال أسيوط، وهي تختلف عن القوصية الحالية، وقيل إن أهلها عندما رأَوا الأصنام تتحطم رفضوا استقبال العائلة المقدسة؛ وقد أصبحت هٰذه المدينة خرابًا. وهناك تقليد أن العائلة المقدسة أقامت بمغارة بالجبل الشرقيّ مدة عشرة أيام.
“مير”
ومن قُسقام القوصية وصلت العائلة المقدسة إلى بلدة “مِير” (ميره) غرب “القوصية” حيث أكرمها أهلها وباركهم السيد المسيح وأمه القديسة السيدة العذراء.
“جبل قُسقام”
تحركت العائلة من “مِير” إلى “جبل قُسقام”، بعد عناء ومشقة من الترحال الطويل، ومكثت هناك ستة أشهر وعشَرة أيام بإحدى المغارات؛ وفي هٰذا المكان حاليًّا دير القديسة السيدة العذراء الشهير بـ”دير المُحَرَّق”، حيث يُعد هيكل كنيسته الأثرية هو المغارة التي عاشت فيها العائلة المقدسة. تأسس الدير على يد القديس أنبا باخوميوس أب الشركة. واستقرت العائلة المقدسة هناك حتى ظهور الملاك لـ”يوسُف” مرة أخرى، قائلاً: “قُم خُذ الصبيّ وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبيّ.” (متى 2: 20)؛ لتعود العائلة المقدسة إلى أرض فلسطين.
طريق العودة
دُرُنكة
في طريق العودة، سلكت العائلة المقدسة طريقًا آخر انحرف جنوبًا حتى جبل أسيوط الغربيّ حيث قرية “درنكة”، وباركتها، وبها الآن دير على اسم القديسة السيدة العذراء يضم كنيسة المغارة. وقد كانت أسيوط آنذاك مرسًى للسفن والمراكب، وربما اتجهت العائلة المقدسة إليها حتى تتخذ المركب وسيلةللعودة إلى الشَّمال،ومنه إلى “مِصر القديمة”، ثم “المطرية”، ثم “مسطرد” ومنها إلى “سيناء” ثم “فلسطين” حيث عادت إلى “قرية الناصرة” بـ”الجليل”.
مدة المسار
عام 1998م، نشرت جامعة كولون بألمانيا بردية أثرية، مدونة باللهجة القبطية الفيومية،تشير إلى أن مدة وجود العائلة المقدسة بمِصر ثلاث سنوات وأحد عشَر شهرًا.
وما زالت ـ بل تظل ـ رحلة هروب العائلة المقدسة إلى مِصر حدثًا دينيًّا تاريخيًّا متفردًا، ومسارها محط أنظار العالم بأسره، وقد عَدَّه غبطة بابا الڤاتيكان رحلة حَجّ مَسيحيّ فضم برنامج الڤاتيكان الرسميّ زيارة مسار العائلة المقدسة. كذٰلك اهتمت الحكومة المِصرية بتدشين مشروع سياحيّ باسم “مسار العائلة المقدسة”.
نطلب إلى الله أن يحفظ بلادنا مِصر ويصونها من كل شر.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي