مع كل ما يمر بنا من أحداث، نجد أن كلمة “المستقبل” هي ما يشغل ذهن كثيرين في الحياة، يتطلعون إليه بقلق بكونه حُلمـًا مريعـًا، في حين يأمُل البعض أن يحمل الغد حُلم السعادة والأمل. وما بين التطلع والأمل، نتساءل في حِيرة: تُرى، كيف تكون الأيام القادمة؟ وهل يمكننا أن نصنع مسيرًا نحو مستقبل يحمل إلينا الخير؟
أولاً: الحاضر هو كَنزك الذي يمكنك استثماره
إن على الإنسان أن يُدرك أن الزمن الذي يملِكه هو الحاضر، وأن الماضي قد عبر ومضى ولم يعُد يحمل إلينا إلا دروسـًا نتعلمها؛ فلا تدعه يمضي دون أن تجني فائدته. أما غدك، فهو حُلم لا تستطيع إلا أن تعمل من أجله، وعملك من أجله يبدأ في حاضرك هٰذا الذي تملِكه وتحياه الآن: إنه الكَنز الذي يمكنك أن تستثمره في حياتك لتصنع لك مستقبلاً عظيمـًا.
وقد يتبادر إلى الذهن: ماذا إذا أُهمل الماضي؟ ماذا إذا لم يستخدم الإنسان ما لديه من خبرات في حياته الماضية؟ أعتقد أن حياته ستنتهي بنهاية غير مرغوبة. مثل ذٰلك البَنّاء الماهر الذي قرر التقاعد عن العمل، بعد أن قضَّى في عمله زمانـًا طويلاً في حياة طويلة حافلة بكثير من الأعمال الرائعة. فقد أخبر البَنّاء صاحب العمل برغبته هٰذه، وأنه يتطلع إلى حياة هادئة مع عائلته. شعَر صاحب العمل بالأسف لرحيل هٰذا البَنّاء الماهر، ولٰكنه طلب منه أن يقوم بآخر مُهمة له ببناء بيت أخير قبل تركه العمل. وافق البَنّاء على مضض، وبدأ في بناء البيت، لٰكنه لم يستخدم ما لديه من مهارات في بناء البيت، وكذٰلك استخدم أدوات بسيطة، إذ كان كل ما يهتم به هو إتمام هٰذا البيت في أسرع وقت وبأقل مجهود. وقد كان عمله هٰذا لا يناسب أبدًا تاريخه المشرف في مهنته. وبعد أن انتهى من بناء المنزل، وفحْص صاحب العمل له، قدَّم مِفتاح المنزل إلى البَنّاء قائلاً: أُقدم إليك هٰذا البيت، إنه هديتي لك! فوجئ البَنّاء بكلمات صاحب العمل، وسَرَت داخله مشاعر من الخجل والندم؛ فلو كان يعلم أنه يبني بيتـًا له لبناه أفضل مما فعل!!!
وهٰكذا كل منا ينبغي له أن يبني حياته ومستقبله الذي سيعيش فيه يومـًا ما. وحين تمر الأيام، يُدرك الإنسان أن حياته ومستقبله هما نتاج ما قام بعمله لنفسه. فكل منا هو صانع مستقبله؛ فعملك ومواقفك وخِياراتك هي بِناء الغد، فلينتبه كل إنسان: لِمَ يبنِي، أو يهدم؟!
ثانيـًا: المستقبل يحمّلنا مسؤولية عمل اليوم
ومع أن لا أحد يستطيع الادعاء بأنه يعرِف ما يحدث في المستقبل، أو كيف سيكون ـ فهٰذا أمر يتعلق بالله وحده ـ تبارك اسمه ـ إلا أن هٰذا لا يعني عدم وجود دَور لنا في رسم المستقبل! بل على النقيض، فكل منا عليه دور هام يرتقي إلى الواجب والمسؤولية حتى يمكنه الوصول إلى ما يرغبه في الغد. فعلى سبيل المثال: كيف لطالب أن يحقق النجاح في الغد، دون أن يعمل اليوم ويستذكر دروسه؟! وكيف لمن يرغب في أن يصل إلى قمم النجاح في غده أن يحقق ذٰلك دون السعي بجد واجتهاد في يومه؟!
إن المستقبل يرتبط ارتباطـًا وثيقـًا لا ينفصم بالحاضر الذي يحياه البشر؛ فما يزرعه الإنسان إياه يحصُِد؛ وبذٰلك يكون المستقبل نِتاج ما نحياه اليوم. فإن من لم يبنِ اليوم، لن يجد له مبيتـًا في الغد. لذا، ما نفكر فيه وما نفعله الآن يرسُِم مستقبلنا. ومن هنا تنشأ أهمية الحاضر الذي نحياه ليصبح لدينا مستقبل تتحقق فيه آمالنا وأحلامنا. والإنسان الذي ينحصر في الماضي ولا يتخطاه، ويُهمل الحاضر فلا يبني فيه، حتمـًا يخسَِر مستقبله. ليكُن الماضي طريقـًا للتعلم، والحاضر إصلاحـًا وتعديلاً.
وبنظرة سريعة في الأديان، نجد أنها جميعـًا تتفق على أهمية عمل الإنسان في حاضره ليحيا مستقبلاً أفضل. وهٰذا العمل يتعلق بما هو مختص بالأمور الروحية، وبما هو مرتبط بأمور حياتنا على الأرض. فجميع التعاليم تطالب الإنسان بأن ينتبه للعمل من أجل أبديته والحياة الآخرة بالصلاة والصَّوم وعمل الخير، وفي الوقت نفسه تطالبه بأن يهتم بالعمل من أجل غده ومستقبله؛ ففي الكتاب يقول الحكيم في سفر الأمثال: “نَفْسُ الْكَسْلانِ تَشْتَهِي وَلا شَيءَ لَها، وَنَفْسُ الْمُجْتَهِدِينَ تَسْمَنُ.”، وعدم اهتمام الإنسان يؤدي إلى هلاكه وسوء حاله: “اَلْكَسْلانُ لا يَحرُِثُ بِسَبِبِ الشِّتاءِ، فَيَسْتَعْطِي فِي الْحَصادِ وَلا يُعْطَى.”. وفي القرآن، نجد في سورة الحَشْر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ٱتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. من هنا نجد أن الله قد وهب لكل منا: قدرات، وإمكانات، ومواهب، وأموالاً، وصحة، وذكاءً، و غيرها من المِنح؛ لصُنع غد أفضل لنا ولمن حولنا.
ثالثـًا: الإنسان هو سر النجاح
“إن مصيرنا ليس في النجوم بل في أنفسنا”؛ كلمات قالها الكاتب المسرحيّ الإنجليزي “وليم شكسبير”، الإنسان الذي حقق نجاحـًا لا مثيل له بعد حياة اتسمت في بداياتها بالبؤس والشقاء، إلا أن سعيه وعمله وعدم توقفه سمات حققت له الإنجازات. وبذٰلك فإن أول قاعدة نحو المستقبل الذي نريده تكمُن داخل الإنسان نفسه. إن مستقبل الإنسان ومصيره يتوقفان عليه هو، معتمدًا على معونة الله، لا على قوة أخرى خارجه.ولهٰذا يجب أن يكون لنا الإيمان بأدوارنا، كلٍّ في مجاله، في صنع مستقبلنا لنؤديها بأمانة، والرب هو من يُعطينا النجاح.
وفي ظل ما نحياه اليوم من ظروف، وسعي نحو مستقبل آمن وأفضل لأبنائنا وللأجيال القادمة، علينا أن نهتم بالتكاتف معـًا، وبنبذ الخلافات التي تدمر ما يتبقى من جُهد يمكِّننا من البناء. يقولون: “إن تكسيرك مجاديف الآخرين لا يَزيد من سرعة قاربك!”،بل أعتقد أنه أمر يعطل الجميع إذ يترك الإنسان هدفه ووِجهته الرئيسية، منشغلاً بمن حوله، وتكون عاقبة الأمور دمار المستقبل. فإنه مع تنفيذ الاستحقاق الثالث، علينا جميعـًا أن ننتبه لمستقبل بلادنا، متحدين في العمل، عاملين على جعل الخلافات مصدرًا للتنوع والإثراء لا سببـًا للخلاف والشقاق. وهٰكذا يتجه الجميع بسرعة كبيرة نحو مستقبل عظيم يحمل الخير إلى الجميع.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ