أهنئكم جميعًا بـ”عيد الميلاد” المجيد، الذي نحتفل به بعد أيام قلائل، متضرعين إلى الله أن يعم بسلامه على العالم، ويرفع عنه الوباء، وأن يبارك بلادنا بكل خير وسلام وهدوء وطُمأنينة.
لقد انتظرت البشرية لحظة الميلاد المجيد آلاف السنوات؛ حتى تحقق النبوات التي تحدث عنها أنبياء “العهد القديم”، فقد تنبأ “إِشَعْياء النبيّ”: “الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور.” (إِشَعْياء 9: 2)؛ ومن العجيب أن تلك النبوات لم تكُن عن ميلاد المخلِّص فقط، لكنها قدمت عددًا من التفاصيل الدقيقة عن ذٰلك الميلاد العجيب، منها: أن المخلِّص المولود من نسل “يعقوب” ومن “سبط يهوذا” تحديدًا: “لا يزول قضيب من يهوذا ومشتَرِع من بين رِجليه حتى يأتي شِيلُون وله يكون خضوع شعوب.” (التكوين 49: 10)، في حين تنبأ “إِرميا النبيّ”: “ها أيام تأتي، يقول الرب، وأقيم لداود غصن بِرّ، فيملك ملك وينجح، ويُجري حقًّا وعدلاً في الأرض. وفي أيامه يخلَّص يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنًا، وهٰذا هو اسمه الذي يدعُونه به: الرَّب برِّنا.” (إِرْميا 23: 5 و6)، وأن ميلاد ذٰلك المخلِّص سوف يكون في “بيت لحم”: “«أمّا أنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنتِ صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرُج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل».” (ميخا 5: 2)، وأنه سوف يولد من “عذراء”: “ولٰكن يُعطيكم السيد نفسُه آيةً: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه «عمانوئيل».” (إِشَعْياء 7: 14)، بل إن “دانيال النبيّ” حدد موعد ميلاد السيد المسيح.
ويجول بنا القديس “البابا أثناسيوس الرسوليّ” في كتابه “تجسد الكلمة”، في رحلة تبدأ مع خلقة الإنسان، ثم سقوطه وفساد طبيعته، وأنه كان لا بد أن يُنقذ الله خليقته؛ فتجسَّد الكلمة الأزليّ واهب الحياة الأصليّ: “ارتضى – بتحنن أبيه وصلاحه – أن يظهر لنا في جسد بشري لخلاصنا”. لقد خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله، خُلق عاقلاً كي يحيا في السعادة والحياة الحقيقية في الفردوس، ثَم قدم له الوصية كي يحفظه من السقوط: “حتى إذا حفِظ النعمة، واستمر صالحًا، استطاع الاحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حزن ولا ألم ولا هم … أما إذا تعدى الوصية وارتد، وأصبح شريرًا؛ فيعلم أنه يجلُِب على نفسه الفساد بالموت …”.
وأخطأ الإنسان ودخل إليه الفساد والموت الأبديّ. إلا أن الله تحنن على البشر ونزل إليهم كي يغيثهم، فيقول “البابا أثناسيوس الرسولي”: “لأن إغاثتنا كانت هي الغرض من تجسده. ولأجل خلاصنا أظهر محبته العظمى إلى حد أن يظهر ويولَد في جسد بشريّ.”؛ فمن ذا الذي يستطيع أن يرد الإنسان إلى حالته الأولى من عدم الفساد، ويوفي عدل الله المطالَب من جميع البشر، وفي الوقت نفسه يقدم له معرفة الله، إلا كلمة الله الأزليّ نفسه، فيأتي ويتجسد من أجل مصالحة السمائيِّين مع الأرضيِّين؛ ولذا أشار “إشَعْياء النبيّ” في نبوءته: “لأنه يولَد لنا ولد ونُعطَى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلٰهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيس السلام.” (إِشَعْياء 9: 6).
وقد اهتزت السماء لميلاد السيد المسيح، فجاءت الإعلانات سمائية تشير إلى الميلاد العجيب؛ فظهرت الملائكة وهي تسبح أنشودتها التي تتردد عبر الأزمان: “«المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة».”. (لوقا 2: 14)، وقاد النَّجم العجيب مجوس المشرق إلى حيث السيد المسيح طفلاً مولودًا، وفي ذٰلك يقول “البابا أثناسيوس”: “لأنه هو الذي جعل النَّجم أيضًا يشير إلى نوع ميلاد جسده. لأنه كان يليق «بالكلمة»، النازل من السماء، أن تكون الإشارة إليه أيضًا من السماء، وكان يليق بملك الخليقة، عند ظهوره للعالم، أن تعترف به كل الخليقة جِهارًا.”.
كل عام وجميعكم بخير.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي