أهنئكم جميعًا بـ «عيد الميلاد» المجيد، الذى يحتفل به مَسيحيُّو الشرق فى «السابع من يناير»، والموافق «التاسع والعشرين من كيهك» بحسب التقويم القبطيّ، ونصلى إلى الله أن يجعل العام الجديد مباركًا مملوءًا سلامًا وخيرًا لبلادنا المحبوبة «مِصر» وللعالم بأسره، مرفوعًا عن الجميع الوباء والمرض.
يرتبط التعبير عن ميلاد السيد المسيح بعدد من المظاهر: كشجرة الميلاد، ومغارة الميلاد التى تُجسد مكانه، والشخصيات التى ارتبطت بالميلاد؛ كما يرتبط الميلاد بشخصية عُرفت فى الغرب باسم «سانتا كلوز»، وفى الشرق بـ «بابا نويل»: وهو شخصية الأسقف «نِيقُولاوُس «نِيقُولاس» أسقف «مورا»، التى خُطت قصتها على صفحات التاريخ. وتًعد مدينة «مورا» إحدى المدن اليونانية الواقعة فى آسيا الصغرى (الآن مدينة من «ليكيا» فى جنوب تركيا)، التى أقيم «نِيقُولاوُس» أسقفًا عليها.
شهِد أواخر القرن الثالث ميلاد الأسقف «نِيقُولاوُس» من عائلة يونانية غنية بمدينة «باترا» بآسيا الصغرى، لم يكُن لأبويه أطفال، إلى أن تحنن الله عليهما ورزقهما طفلًا أسمياه «نِيقُولاوُس»، فربياه تربية حسنة، ثم صار راهبًا بأحد الأديرة، وعاش حياة النسك والفضيلة، حتى رُسِم قَسًّا وهو فى التاسعة عشرة، تُوفى والداه وهو لا يزال شابًّا، فقرر أن يضع جميع ما تركه أبواه من أموال فى خدمة المحتاجين والمعوزين، ثم اختاره الشعب أسقفًا لمدينة «مورا» بعد نياحة أسقفها.
اشتُهر الأسقف «نِيقُولاوُس» بمحبته وعنايته بكل إنسان، حتى إنه كان يسارع بمد يد المعونة والمساعدة إلى كل محتاج؛ وهكذا صارت حياته تجسيدًا لمعانى الخير والعطاء، سواء أكان معنويًّا بالاهتمام بالمنبوذين والضعفاء، أو ماديًّا بتقديم الأموال والاحتياجات للفقراء والمساكين والمحتاجين. وقد ذُكر عنه اهتمامه الشديد بالجميع، وخاصة الأطفال واليتامى والأرامل، وكان مدافعًا عن الحق والمظلومين.
وقد ذُكرت قصص عديدة عن عطاء «الأسقف نِيقُولاوُس»، إلا أن أشهرها كان قصته مع أحد الرجال الأغنياء بالمدينة، الذى فقد كل ثروته وممتلكاته ولم يعُد لديه مال يكفى قوت أسرته الضروريّ، وكانت لذلك الرجل ثلاث بنات، إلا أنه لم يتمكن من تزويجهن لقصر ذات اليد إذ كان فى عوز شديد. وعندما اشتدت قساوة العوز على تلك الأسرة وازدادت حاجاتهم، هيأ الشيطان للأب أن لا حل لمشكلاتهم إلا بأن يُرسل بناته إلى العمل فى الرذيلة والسوء!! وما إن علِم «الأسقف نِيقُولاوُس» بقصة ذلك الأب، حتى قرر أن يسرع إلى مساعدة تلك الأسرة لينتشلها من تلك الظلمة التى أحاطت بها، مقدمًا لها قليلًا من الراحة والسلام.
انتظر الأب الأسقف حلول الليل، ثم وضع أموالًا فى أحد الأكياس، وتسلل دون أن يشعر به أحد حتى وصل إلى منزل الرجل. ثم ألقى كيس المال من نافذة المنزل، وعاد إلى مكانه دون أن يشعر به إنسان. وفى صباح اليوم التالى، وجد الرجل المال، ففرِح فرحًا عظيمًا جدًّا، وزوَّج بالمال ابنته الكبرى.
لم يتوقف عطاء الأسقف «نِيقُولاوُس» لتلك الأسرة، بل فعل الأمر مرة ثانية فألقى بكيس آخر من نافذة المنزل ليلًا دون أن يراه أحد؛ وهكذا استطاع الرجل أن يزوج ابنته الثانية. إلا أن الرجل كان دائم التفكير والتساؤل عن هُوية من يقدم لأسرته المال دون أن يهتم بإعلان شخصيته، فاشتاق كثيرًا أن يعرفه؛ فقرر أن يظل ساهرًا يترقب نافذة المنزل، حتى جاء الوقت الذى ألقى الأسقف «نيقولاوُس» الكيس الثالث، فأسرع الرجل إلى خارج المنزل ليكتشف أنه «الأسقف نِيقُولاوُس»!! حاول الأب أن يقدم الشكر إلى «الأسقف نِيقُولاوُس» من أجل ما قدمه من عطاء أنقذ به أسرته من الفقر، وبناته من الوقوع فى براثن الشر والخطيئة، إلا أن الأب الأسقف طلب منه أن يقدم الشكر لله المحب الصانع الخيرات.
وهكذا ظلت شخصية «الأسقف نِيقُولاوُس» رمزًا للمحبة والعطاء الخفى، ولم تتوقف حياته عند مفارقته للحياة عام ٣٤٢م، بل امتدت شخصيته فى العالم بأسره حيةً عبر العصور، يتذكر بها الجميع مع ذكرى «عيد الميلاد»: أن المحبة والعطاء يَحيَيان طوال العصور، فقد اعتاد المَسيحيُّون فى «ألمانيا» و»سويسرا» و»هولندا» تبادل الهدايا باسمه فى «عيد الميلاد»، إنها تلك المحبة التى أعلنت فى ميلاد السيد المسيح، وذاعت فى حياته وتعاليمه بين البشر، والتى قيل فيها من أمير الشعراء أحمد شوقى: «وُلد الحب يوم وُلد «عيسى»»…كل عام وجميعكم بكل بركة وخير وسلام.