No Result
View All Result
عندما مرت بالوطن والكنيسة الأحداث الجسام التي استُشهد فيها 21 مصريـًّا بيد الإرهاب، تذكرت كلمات المتنيح البابا “شنوده الثالث”: “اُذكر باستمرار أنك غريب على الأرض، وأنك راجع إلى وطنك السماويّ.”. وهٰكذا في إدراك الإنسان لحقيقة أنه “غريب” ولا بد له من أن يعود يومـًا ما إلى وطنه الحقيقيّ، يمكنه رسم خُطواته في الحياة. فالموت ما هو إلا جسر يعبره الإنسان من حياة إلى حياة.
وهنا أجدني أكتب عن هؤلاء الذين قدموا حياتهم لأجل وطنهم وإيمانهم؛ فأمكنهم التخلي والتجرد، التجرد عن كل شيء حتى عن الحياة نفسها. إن الاستشهاد ليس شجاعة مفاجئة يكتسبها الإنسان، أو هو عدم اهتمام بأمور الحياة، أو هروب من المشكلات، وإنما الاستشهاد هو ارتفاع الإنسان بفكره وسلوكه إلى ما بعد الحياة فيمكنه أن يتنازل عن كل ما فيها؛ وهٰذا ما عاشه الشهداء من مفهوم وفكر في حياتهم.
وفي الاستشهاد، بذل يصل إلى تضحية الإنسان بنفسه في مقابل ما يؤمن به؛ حتى إنه يقدم حياته من أجله. وحتى يتمكن الشخص من الوصول إلى هٰذه الدرجة من البذل، يجب أن يكون قد تدرب في حياته على البذل. فهو يبذُِل من أجل الآخرين ما يستطيعه من مال وجُهد؛ فمن لا يستطيع أن يحب الآخرين لا يقدر أن يحب الله: “… كل من لا يفعل البر فليس من الله، وكذا من لا يحب أخاه.”، و”إن قال أحد: «إني أحب الله» وأبغض أخاه، فهو كاذب. لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟”. وهٰكذا يتدرب الإنسان في الحياة على المحبة والبذل وإيثار الآخر إلى أن يرتفع بكل هٰذه الفضائل إلى السماء التي يكون قد بدأها بالفعل على الأرض؛ فيكون الاستشهاد هو السبيل للاقتراب من الله الذي يحبه.
والاستشهاد يعنى إيمانـًا عميقـًا قويـًّا لا يهتز داخل الإنسان. إلا أن هٰذا الإيمان يُبنى في طريق الحياة، طال أم قصر، من خلال عَلاقة عميقة بين الإنسان والله تظهر في معاملاته نحو الآخرين في المودة، والمسامحة، والرحمة. وهٰذا الإيمان هو ما يهب للإنسان الصبر والقوة والاحتمال عند تعرضه لمشكلات وضيقات وآلام، واضعـًا أمامه رجاءً لا ينتهي، وثقة بالله لا تتبدد.
والمَسيحيُّون مِصريُّون، من شعب لا يهاب الموت، ويرفض أن يحيا مُهانـًا، قد سطَّروا شجاعتهم واحتمالهم في صفحات التاريخ المضيئة في زمن الاضطهاد الذي أعلنه “دقلديانوس”؛ ومع هٰذا تمسكوا بإيمانهم الراسخ في جذور تاريخهم، مفضلين الموت عن الحياة في ضعف أو إنكار لما يؤمنون به، حتى إن كان الثمن حياتهم! فيقدمونها لله، ويقفون أمام الموت بثبات دون اهتزاز.
إن الاستشهاد هو وصول إلى الوطن ـ أقصد الوطن السماويّ. وأتذكر كلمات أحد الآباء عند نفيه، فقد سأل: “أين تذهبوا بي؟ إلى أيّ مكان أذهب؟” قالوا: “إلى بلد بعيد وبعيد جدًّا، إلى مكان قاحل.” قال: “لا يهمني! أنا أسأل سؤالـًا: هل هناك الله؟” قالوا له: “الله موجود في كل مكان.” قال: “إذًا، كل مكان بالنسبة إليَّ سواء، أنا سعيد بالله في هٰذا المكان، وسعيد به في أيّ مكان آخر، هٰذا لا يزعجني، هٰذا لا يقلقني ما دام الله معي وما دمتُ أنا مع الله؛ فأنا سعيد ولا يعنيني المكان الذي أكون فيه!”.
فهنيئـًا لشهداء الوطن والإيمان، طالبين عزاءً لأسرهم ومحبيهم.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ
No Result
View All Result