الشعب المِصرى بمناسبة ذكرى تحرير سيناء واستعادتها التى دائما كانت وستبقى جزءًا لا يتجزأ منه. فسيناء على مر تاريخها جزء مِصرى أصيل أضفى على مِصر تميزًا؛ إذ جعلها قلب العالم، والبلد الذى يربط قارتى أفريقيا وآسيا. ومنذ فجر التاريخ وسيناء لم تغادر مشهد الاهتمام المِصرى، بل الدّولى أيضًا؛ إذ صارت دائمًا مَحط اهتمام دول العالم.
وفى جولة سريعة عبر التاريخ، نجد امتيازًا لسيناء فى كل مرحلة مرت بالبلاد؛ ففى عصر الفراعنة كانت سيناء أرض الفيروز والتعدين والتجارة، وقد صارت أرضًا مباركة عندما تجلى الله- جل جلاله- فيها مرتين لموسى النبى، وصارت معبرًا لرجال الله إلى مِصر.
إن سيناء لعِبت دورًا فى كل مرحلة من التاريخ المِصرى نعبر على بعض منها فى رحلة سريعة عبرة. وإذ لا يفوتنى أن أشكر جُهد كل من اهتم بكتابة تاريخ سيناء من المؤرخين ليساهم فى معرفة تاريخ جزء غالٍ من بلادنا المحبوبة.
سيناء الفراعنة:
اهتم حكام الأسر الفرعونية التى حكمت مِصر من لحظة توليهم حكم البلاد بسيناء التى تحوى ثروات طبيعية ومعادن كثيرة وهبها الله لها. فقد نال التعدين واستخراج المعادن النفيسة من أرضها اهتمامهم، وخصوصًا الفيروز والنُّحاس. وقد بدأ تعدين الفيروز أولًا من عصر الأسرة الأولى فى «وادى المغارة»، ثم فى «جبل سرابيت الخادم»، أمّا تعدين النُّحاس، فكان فى «وادى النُصُب الغربية». وقد أطلقوا اسم «مفكة» على البلاد التى استخرجوا منها الفيروز، ومنها جاءت كلمة «دفقة» التى ذُكرت فى رحلة خروج بنى إسرائيل من مِصر.
وكعادة الفراعنة فى تدوين أمور حياتهم وتاريخهم، قاموا أيضًا بتدوين حملات التعدين فى سيناء على صخرات وأنصاب شيدوها جوار المعادن، ومنهم: أنصاب «سرابيت الخادم». وقد ذُكر أن حملات التعدين كانت تحوى: العمال، والجند، والكتاب، والبنائين، والنقاشين، والنحاتين، وخبراء التعدين، والأمناء الذين يقومون بحفظ المعدِن المستخرج، والمفتشين، والأطباء، وغيرهم. وكانت وسائل المواصلات المستخدمة لنقل المُؤَن والمياه هى: المراكب فى البحر، والحَمير فى البر.
كان لكل فرد فى تلك الحملة عمله، فالبعض يعمل فى البناء، وآخرون يدونون الأحداث وأفراد الحملة على الصخور والأنصاب، وكثيرون يعملون فى التعدين. أمّا الأدوات المستخدمة، فكانت: أزاميل من الصَّوّان لقَطْع الحجارة من جبل الفيروز، ثم استُخدمت أزاميل النُّحاس، ومطارق الحديد. كان إرسال هٰذه الحملات على مُدَد تتراوح من عام إلى عدة أعوام، تبدأ فى الشتاء فى شهرى نوڤمبر وديسمبر، وتستمر حتى شهر مايو إلى حين ارتفاع درجات الحرارة، ويصعب العمل فى المناجم فيعودون بما استخرجوه من المعادن تاركين أثرًا ونُصُبًا فى محل عملهم مدونة عليها جميع أخبار الحملة.
وهٰكذا امتلأت سيناء بالآثار الفرعونية القديمة التى تعود إلى آلاف السنين. إلا أن يد العبث بدأت تمتد إليها فى القرون الحديثة من الباحثين عن الفيروز، فشوهوا الصخرات الهيروغليفية ظانين أنها تحوى الفيروز! وظل الأمر يتفاقم حتى مطلع القرن العشرين، حين رفع أمر هذا العبث بالآثار «فلندرس بترى»ـ أحد أشهر علماء الآثارـ إلى الحكومة المِصرية مسديًا النصيحة بنقل الآثار إلى مِصر.
وقد اهتمت الحكومة آنذاك بالأمر ونُقل ما أمكن إلى المُتحف المِصرى بالقاهرة. ولٰكن هذا لم يمنع البعض من محبى الآثار من نقل بعضها إلى المُتحف البريطانى والمتاحف الأوروبية.
ومن أهم الآثار الفرعونية فى وادى المغارة: أولًا: الصخرات الهيروغليفية، وبعض ما أُنقذ منها: «صخرة سمرخت»، وتعود للأسرة الأولى، و«صخرتا سانخت» من الأسرة الثالثة.
ثانيًا: مغائر الفيروز، وأهمها مغارة «سانخت».
ثالثًا: مساكن المُعَدِّنين القدماء، وهى أكواخ من الحجر قرب مغائر الفيروز.
وأخيرًا: سد منيع من الحجارة كوَّن بحيرة عظيمة من مياه الأمطار كانوا يصيدون فيها الأسماك.
وأيضًا من أهم آثار الفراعنة فى سيناء هيكل «سيرابيت الخادم» على الجبل المسمى بهٰذا الاسم، وهٰذا الهيكل له أهمية تاريخية كبيرة؛ إذ هو أقدم هيكل عُرف عنه استخدام الطقوس السامية فيه، وباكتشافه يكون المِصريُّون قد مارسوا فيه الطقوس السامية لا المِصرية.
ومن أهميته أيضًا وجود كتابة خاصة فيه، يُعتقد أنها من آثار العمال الساميِّين الذين ساعدوا المِصريِّين فى حملاتهم التعدينية.
ومن بعض ما يحويه هٰذا الهيكل: كهف «الإلٰهة هاتور» إلٰهة الشمس أو النور الملقبة بسيدة الفيروز، وكهف «الإلٰه سوبدو» إلٰه الشرق لدى المِصريِّين، وغرف الهيكل والأنصاب التى تحمل أخبار الحملات المرسلة.
ويذكر بعض المؤرخين أن المُعَدِّنين كانوا ينامون فى غرف الهيكل آملين أن تكشف لهم سيدة الفيروز فى الحُلم الأماكن التى يكثُر فيها الفيروز.
سيناء والتِّيه:
يرتبط اسم سيناء بقصة خروج بنى إسرائيل من أرض مِصر وقضائهم أربعين سنة فى منطقة التِّيه. ونجد ذِكرًا لهٰذا الحدث الجلل فى الأديان فى حين غاب الإعلان الصريح عن المشهد من الآثار المِصرية أو السورية.
ويأتى بعض المؤرخين بتفسير الأمر إلى أن النقوش التى كان يقوم بها الملوك الفراعنة كانت تحتوى على أمجادهم وانتصاراتهم غاضِّين الطرف عما يتعرضون إليه من فشل أو هزيمة، كما حدث فى الخروج. ونجد آثاره فى: اسم سيناء المعروفة به البلاد فى التوراة والقرآن، وأيضًا توجد عيون موسى، وحمام موسى، وجبل موسى، والعُلَّيقة، وحمام فرعون، وغيرها.
سيناء فى عصر البطالمة والرومان
يختلف عصر البطالمة والرومان فى اهتمامهم بسيناء، فلا نجد ذكرًا لأنشطة إنتاجية فى سيناء مثل التعدين، وإنما أخبار حروب كثيرة بين سوريا والعراق وجزيرة العرب.
ومن أهم المعارك التى شهِدتها سيناء فى العصر البطلمى، «حرب رفح» التى أحرز فيها المقاتل المِصرى أعظم انتصاراته فى الدفاع عن البلاد فى صد العُدوان الخارجى عنها.
ويُعد أهم آثار تلك المدة دَير سانت كاترين الذى أقامه الإمبراطور «يوستينيانوس» عام 545 م تقريبًا، ويضم العُلَّيقة المشتعلة التى رآها موسى النبى. فقد قدُم الرهبان والنساك إلى «جبل موسى»، و«وادى فِيران»، و«وادى الحمام» وذٰلك من القرن الثانى الميلادى مع انتشار الاضطهادات ضد المَسيحيِّين. وكان أول من كتب عن رهبان طُور سيناء والاضطهادات التى نالوها البابا دِيُونِيسيوس ـ الـ14 من بابوات الإسكندرية. كذٰلك نجد مع بَدء القرن السادس ذكرًا لإيبارشية تُسمى «إيبارشية فِيران».
سيناء فى الفتح الإسلامى
وكما هو معروف فإن الفتح الإسلامى لمِصر كان فى عام 640 م فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكان ذٰلك على يد عمرو بن العاص الذى دخل مصر عن طريق الفرَما.
وقد قاومه الروم إلا أن مقاومتهم كانت ضعيفة، واستمر فى التقدم، وفتح البلاد المِصرية حتى وصل إلى الإسكندرية. وقد هاجر كثير من العرب، واستوطنوا فى سيناء. كان للدولة الفاطمية أثر فى سيناء هو جامع بناه «الآمر بأحكام الله» بدير سانت كاترين.
وفى عصر الدولة الأيوبية، قام صلاح الدين بفتح «آيلة» وجعلها تحت سلطانه، وأنشأ طريق العريش بعد خراب طريقَى «تنيس» و«الفرَما»، وأقام عددًا من القلاع الحصينة فى سيناء: «قلعة الجندى» وإلى جوارها جامعان متجاوران، و«قلعة مبعوق»، و«قلعة فرعون».
وفى عهد المماليك، استعيدت «آيلة» من الصليبيِّين على يد «السلطان بيبرس». كذٰلك مهد السلطان منصور قلاوون «نقب العقبة» فى درب الحج المِصرى. وفى دولة المماليك، الشراكسة ترك السلطان قُنصوى الغورى كثيرًا من الآثار فى سيناء، فبنى القلاع على درب الحج المصرى ومنها: «قلعة نخل»، و«قلعة العقبة».
وفى الدولة العثمانية، بنى السلطان سليم «قلعة الطور»، وبنى السلطان سليمان «قلعة العريش» ورمَّم «قلعة نخل».
وفى أثناء الاحتلال الفرنسى، أقر «نابُليون بونابرت» امتيازات الدير ورمَّم سوره. وفى الصراع بين نابُليون والأتراك والإنجليز، فتح نابُليون العريش، ولٰكنّ العثمانيِّين استعادوها فيما بعد.
وفى أيام «مُحمد على» كانت الحروب والفتوحات وإخماد الثورة الوهّابية، فكانت سيناء هى الطريق فى الحروب.
إلا أنه فى أيامه أيضًا كتب الرحالة «بورخارت» عن سيناء، كما أرسل «مُحمد على» مهندسًا فرنسيًا لدراسة التعدين فى بلاد الطور، وهو الذى وضع أول خارطة لسيناء فى التاريخ الحديث. أمّا عباس باشا، فقد مهد طريقًا من دير طور سيناء إلى قمة «جبل موسى». ومن بعده أذِن «سعيد باشا» بحفر قناة السويس، وأسس «محجر الحجاج» فى سيناء. وفى أيام «إسماعيل باشا»، أُرسلت لجنة علمية إنجليزية للتنقيب فى بلاد الطور، وأيضًا بُنيت قرية القنطرة فى طريق العريش.
وفى أثناء الثورة العرابية، شهِدت سيناء قتل الأستاذ بَلمر ورفاقه، وقد أُرسل وفد إلى سيناء للبحث عن الجناة حتى قُبض عليهم وحوكموا. أمّا فى أيام «توفيق باشا»، فقد تغير مسار الحَج من طريق سيناء واتُّخذ الطريق إلى جدة بحرًا.
وفى أيام «عباس حلمى باشا»، لم تُذكر سيناء ضمن حدود مِصر فى الفرمان المرسل من السلطان، فلم يُقرأ الفرمان حتى جرى تصحيحه وإعادة سيناء ضمن الحدود المصرية. وأيضًا من أهم الأحداث فى سيناء كانت حادثة الحدود عام 1906م، عندما تقدمت تركيا بحملة على مِصر إبان إعلان الحماية البريطانية على مِصر، لٰكنها فشِلت.
ثم تعرضت سيناء للاحتلال الإسرائيلى بعد هجوم 1967 م، وحُرّرت، واستُعيدت فى 1982 م، فيوم الـ25 من إبريل هو يوم استرداد مِصر سيناء بعد انسحاب آخر جندى إسرائيلى منها، تبعًا لمعاهدة «كامب ديڤيد»؛ ما عدا مدينة طابا التى استُردت لاحقًا بالتحكيم الدولى فى الـ15 من مارس 1989م.
إلا أن استرداد سيناء لم يكُن ليتحقق لولا همة الجيش المِصرى وشجاعته وبسالته فى حربه التى خاضها ضد العدُوّ 1973 م، فبدماء المِصريِّين المُسالة على أرضها لتحريرها رثفع العلم المِصرى عليها، وصار الطريق ممهدًا لاستعادتها.
إن الحفاظ على الأراضى المِصرية كان ولا يزال مؤَمَّنًا بجيش مِصر العظيم الذى دائمًا ما خطت الأيام والأحداث قدرته العظيمة فى العمل من أجل أمن البلاد وسلامتها. إن سيناء جزء لا يتجزأ من بلادنا المحبوبة مصر، حفِظها الله من كل شر.
وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام.. رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى