تحدثت المقالة السابقة عن “الميلاد والسلام”: السلام الذي صار للبشرية بميلاد السيد المسيح “ملك السلام”. ولقد طوب السيد المسيح صانعي السلام حتى صار وصية: “ٱطْلُبِ ٱلسَّلاَمَةَ وَٱسْعَ وَرَاءَهَا”، “وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا”. وحين نتحدث عن السلام فنحن نتحدث عن “المحبة”. إن من يطلب السلام هو من يملك المحبة التي هي الأساس الحقيقيّ لقَبول الآخر والتعايش معه بود واحترام، مدركًا أن الحياة التي تخلو من المحبة لا تعرف سلامًا. والمحبة لا تدعو إلى تنازل الإنسان عن معتقداته أو مبادئه من أجل الآخرين، بل أن يحيا الإنسان في ود وتعاطف واحترام لإنسانية جميع البشر، وأن يسعى للخير غير ضامر الشر أو الإيذاء لأي إنسان، وأن يقدم يد المعونة إلى من يحتاجها في وقت الشدة والألم والاحتياج، مدركًا أننا جميعنا بشر نحتاج أن يعضد كلٌّ الآخر.
والمحبة هي إحدى وصايا السيد المسيح: “هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ”؛ وحين سئل: “يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ ٱلْعُظْمَى فِي ٱلنَّامُوسِ؟”، أجاب: “تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلْأُولَى وَٱلْعُظْمَى. وَٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ ٱلْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَٱلْأَنْبِيَاءُ.”. بل أوصى بالمحبة حتى نحو الأعداء: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ.”. وهٰكذا امتدت المحبة لتظلل على حياة البشر، وتمنحهم قوة لصنع السلام. إن الإنسان الذي يدرك المحبة الحقيقية، الباذلة الساعية لخير الآخرين الصانعة سلامًا قويًّا، لا يمكن للمحن والاضطرابات والوشايات أن تزعزعه؛ إذ هي كما قيل فيها: “مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ ٱلْمَحَبَّةَ، وَٱلسُّيُولُ لَا تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى ٱلْإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ ٱلْمَحَبَّةِ، تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا.”.
والمحبة أيضًا تحفظ للآخر كرامته، إذ تدرك أنالإنسان هو أهم مخلوقات الله؛ فهو المخلوق على صورة الله ومثاله في العدل، والرحمة، والمحبة، و … إلخ، وإن كانت هي في الإنسان محدودة مهما تعاظمت، لا مطلقة كوجودها في طبيعة الله غير المحدود، فقد ذكر في الكتاب: “وَقَالَ ٱللهُ: «نَعْمَلُ ٱلْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا…». فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ.”؛ وهٰذا أيضًا ما أوضحهالقرآن من أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض، إذ يقول: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَآئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ﴾.
وهٰكذا بالمحبة يسري السلام بين البشر في احترام كل منهم للآخر، في إدراك للمسؤولية الفردية تجاه العائلة الإنسانية الواحدة؛ فالجوامع الإنسانية المشتركة بين الأسرة البشرية هي أكثر من الاختلافات، والحياة والأمن والغذاء والصحة والكرامة والعدل والإحسان والحكمة والتعاون والتسامح والتعايش هي جميعها حقوق وقيم ومبادئ إنسانية مشتركة، فنحترم بعضنا بعضًا لأننا جميعًا نحمل سمات الإنسانية التي خلقنا الله عليها: فالله – تبارك اسمه – خلقنا جميعًا بشرًا نملك المشاعر الإنسانية الراقية لنوجهها بعضنا تجاه بعض؛ ومن ثَم احترام كل منا للآخر هو احترام لعمل الله وخليقته بغض النظر عن الاختلافاتفيما بينهم؛وهذا كله لَينعكس إيجابًا على المجتمعات وعلى نهضة الأوطان ورقيها.
إننا بالمحبة لَيمكننا أن نمتلك السلام الذي يدفعنا إلى القدرة على التعايش والعمل سويًّا، وحين نمتلك تلك القود الدافعة فسوف ندرك سر النجاح ونحقق الإنجازات. ما أحوجنا اليوم إلى السعي من أجل إقرار سلام مجتمعنا، وقَبول الآخر، والقدرة على التعايش معًا! نسعى بجد من أجل تقدم الوطن وثباته، وتحقيق ما نصبو إليه من مستقبل مزدهر ووطن يحتل مكانه ومكانته في الريادة بين الدول، و… والحديث في “مصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ