شهد يوم الأحد 22 يونيو 2025م، أحد الأحداث الدامية في التاريخ الإنساني، حين وقع تفجير “كنيسة مار إلياس” للروم الأرثوذكس بعد هجوم انتحاري، استهدف الكنيسة الواقعة في حي دويلعة بمدينة دمشق أثناء إقامة خدمة صلوات القداس؛ عندما قام انتحاري بتفجير نفسه بحزام ناسف داخل “كنيسة مار إلياس”. وقد استُشهِد قرابة 25 شخصًامن بينهم أطفال،وإصابة قرابة 60 آخرين. وهنا تذكَّرت كلمات السيد المسيح لتلاميذه القديسين: “قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِكَيْ لاَ تَعْثُرُوا. سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ، بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً للهِ. وَسَيَفْعَلُونَ هذَا بِكُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآبَ وَلاَ عَرَفُونِي. لكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ”.
أما عن الاستشهاد، فهو تاريخ طويل سارت فيه الكنيسة منذ تأسيسها؛ وكلمة “شهيد” مشتقة من الفعل الثلاثي “شهِد”؛ وفي الأصل اللُّغوي كانت دلالة على الشخص الذي لديه معلومات عن حدث شهِده، فقدَّم هذه المعلومات وشهد بها. والشهادة تعني الشهادة للإيمان الذي يدين به. أمَّا المعنى الاصطلاحيللكلمة، فهو يشير إلى الإنسان الذي يُقتَل في سبيل شهادته لله.
وفي المسيحية أُطلِقَت الكلمة أولاً على تلاميذ “السيد المسيح” والرسل الذين شهدوا لـ”السيد المسيح”؛ ثم أُطلِقَت على الذين احتملوا الآلام والشدائد بسبب الإيمان قُتِلوا أو لم يُقتَلوا. ثم صارت الكلمة تصف الذين قَبِلوا أن يقدِّموا حياتهم من أجل إيمانهم.
بدأت رحلة الطريق إلى السماء، الاستشهاد، منذ العصر المسيحي الأول حيث استُشهِد تلاميذ “السيد المسيح” جميعًا ماعدا “يوحنا التلميذ”؛ وتوالت الاضطهادات في كل عصر حتى بلغت أشدَّها في أيام حكم الإمبراطور “دقلديانوس”؛ حتى إن المؤرخين وصفوا أيامه بالفظيعة: “وكانت أيامه كلها شنيعة إلى أقصى درجة؛ قتل فيها أصنافًا من الأمم”. واستمرَّت رحلة الطريق إلى السماء في كل العصور والأزمان تزداد حينًا، وتهدأ حينًا آخر.
أما عن الشهداء فقد أدركوا أن هذا العالم وقتيٌّ بالقياس إلى الحياة الأبدية؛ وأنهم غرباء سوف يعودون إلى وطنهم السمائي كي ما يحيوا فيه إلى الأبد؛ واضعين أمام أعينهم كلمات السيد المسيح: “وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ.بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هذَا خَافُوا!”. كما أنهم أدركوا عمق وجمال الحياة الأبدية التي وصفها القديس يوحنا التلميذ في سفر الرؤيا: “ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً،…. وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا. وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهًا لَهُمْ. وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ». وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا». وَقَالَ لِيَ: «اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ». ثُمَّ قَالَ لِي: «قَدْ تَمَّ! أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانًا.مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْء”.
أمَّا المُضطهِدين على مر التاريخ واجهوا نهايات مؤلمة؛ إذ أن الله العادل لا ينسى حق كل من ظلم؛ومن أمثلة هؤلاء: “نيرون” الذي أُبعِد عن السلطة ثم اختفى ولم يُعثَر له على جثة أو قبر، و”دومتيان” الذي قُتِل في قصره بيد أعدائه وقرر مجلس الشيوخ الروماني محو اسمه، و”ديكيوس” الذي ذبح بيد أعدائه، و”أوريليان” الذي خانه أصدقاؤه المقربون إليه وقتلوه، و”دقلديانوس” الذي اعتزل الحكم، ومرِِض بشدة حتى قيل إنه أنهى حياته بيديه.
نصلي من أجل أن يرسل الله عزاءً لأسر الشهداء ومحبيهم، وسلامًا إلى العالم الذي يئن تحت الاضطرابات والحروب والآلام.
وما زال الحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأُرثوذكسي